وأخيرًا.. نجحتُ / قصة قصيرة
ليلى عبدالواحد المرّاني
لماذا تذكّرته الآن وبعد مرور شهرٍ أو أكثر.. أنا لا أعرفه، ولكنني التقيته صدفةً عند إشارة المرور، يقف باعياءٍ وهو يتّكئ على عكّازين، المطر غزير لا يستطيع اتقاءه، شعورٌ دافق بالرأفة دفعني أن أفتح له باب سيارتي قبل أن يضيء اللون الأحمر ويتحرّك طابور السيارات.. تردّد قليلًا، فصحتُ بأعلى صوتي: هيّا، تعال بسرعة، سأوصلك.
حاول جاهدًا أن يسرع، لكن العكازين كانا يعيقانه، فأطلقت السيارات التي خلفي أبواقها، معلنة تذمّرها.
— ليس لديّ ما أدفعه لك، سوى أجرة الباص،
قال متلعثمًا.
— لست سائق سيارة أجرة، سأوصلك إلى حيث تريد.
لا أزال إلى الآن أسمع أنفاسه المتقطّعة تتلاحق وهو يمسح عرقًا يتصبّب من جبهته رغم برودة الجوّ.
— شكرًا أستاذ، لكن طريقي طويل.
— لا عليك يا.. سأوصلك إلى بيتك.
— اسمي شاكر، أستاذ.
بين الفينة والأخرى، أسرق نظرةً إليه، أوّل ما شدّ انتباهي أنه بساقٍ واحدة.. نحيف يحاكي جذع شجرةٍ متيبّسة، وجهٌ شاحب متقلّص، ولحيةٌ صغيرة تتناثر على ذقنه دون انتظام، حين نظر إليّ لاحظت أن عينيه واسعتان جميلتان، غارقتان بدموعٍ حبيسة.
دفعتني شفقتي عليه، ربما فضولي، أن أسأله: كيف فقدت ساقك؟، لكنني تراجعت كي لا أحرجه.
— هل أنت متزوّج؟
— لا يا أستاذ.
ابتسم بمرارة،: مَن تتزوّج بائسًا مثلي؟.
تعثّرت أسئلةٌ كثيرة في فمي، لكنه وفّر عليّ السؤال حين استطرد كأنه يزيح كابوسًا ثقيلًا عن صدره
— فقدتُ ساقي في الحرب، ومعها رجولتي..
أحسستُ بصوته منتحبًا يبكي.
— عاطلٌ عن العمل.. أعيش عالةً على أمي المسنّة عيشة كفاف.. تبيع قطع حلوى تصنعها من الطحين والسكّر لصغار حارتنا.
أخذ المطر يشتدّ غزارةً، ومعه تظافرت صور قاتمة لشاب لم يبلغ الثلاثين بعد، فقدَ كلّ ما يربطه بالحياة؛ تألمتُ، ولم أجد ما أقوله، تمنّيت أن نصل بسرعة إلى بيته، فقد بدأت أنفاسي تضيق حين استطرد:
— حاولتُ الانتحار مرتين، لكنني فشلت.. تصوّر حتى في هذا فشلت!
— وأمك، ألم تفكّر بها، وماذا سيحدث لها؟.
— أريد أن أريحها، فأنا لست إلاّ عبئًا ثقيلًا عليها.. أثور لأتفه الأسباب؛ فتبكي بصمت.
بعد أكثر من ساعة، وأنا أقود السيارة في منعطفات ملتوية خارج المدينة، تنفّست الصعداء حين أشار إلى بيت طينيّ في حيّ كلّ بيوته تحاكي بعضها فقرًا وبؤسًا. أمطرني بكلمات شكرٍ حارّة متلاحقة، مددتّ يدي كي أصافحه، أراد ان يقبّلها؛ فسحبتها بسرعة.
أمس، كأن قوّة خفيّة دفعتني أن أذهب هناك، إلى بيته.. صُعقت، وتراخت قواي حين رأيت امرأةً مسنّة متلفّعة بالسواد، تجلس على عتبة الدار وأمامها سلّة صغيرة لم ارَ ما بها.. وعلى الحائط فوق رأسها لافتة من قماش أسود، كتب عليها: (انتقل إلى رحمة الله الشاب…؟.
لم أكمل قراءة الجملة، فقد غرقت عيناي بالدموع، ووجهه الشاحب النحيل يتراءى أمامي مبتسمًا بمرارة وهو يهمس منتصرًا، باكيًا: وأخيرًا نجحتُ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق