الأحد، 20 أغسطس 2023

** يحبّ الخير للنّاس ** بقلم الكاتب ** محمّد الزّواري ـ تونس **

 ** يحبّ الخير للنّاس **


استيقظت نسمات الفجر متثائبة.. فاستيقظ معها صالح متثائبا و هو يتمطّى تهدهده سيّارة الأجرة الّتي تطوي الأرض طيّا.. فتح القارورة و تناول جرعة من الماء يستقبل بها الصّباح الجديد..


ـ كم مازال من الوقت للوصول إلى المدينة؟

ـ ربع ساعة تقريبا.. نحن على وشك الوصول..


لم تكن الرّحلة من القرية إلى المدينة شاقّة.. بل كانت مشوّقة.. سيقابل هذا الصّباح ابن عمّه الّذي سبقه إلى المدينة منذ عامين للعمل في أشغال البناء.. في رأس كلّ شهر يتوجّه العمّ إبراهيم إلى مكتب البريد ليقبض الحوالة.. صحيح أنّ المبلغ لا يفي بالحاجة و لكنّه يشعر أنّ ابنه عبد الفتّاح رجل من الرّجال يستطيع تحمّل المسؤوليّة..

 

ـ لماذا سمّيت ابنك عبد الفتّاح يا عمّ إبراهيم؟

ـ ليفتح الله عليّ.. 


و هاهو القدر على عهده.. لقد فتح الله عليه فعلا.. و أصبح عبد الفتّاح يعمل ليلا نهارا.. و يحسّس والديه بأنّه لا يستسلم للظّروف و أنّ الرّجل الحقيقيّ هو من يستطيع جلب الدّراهم بأيّ طريقة كانت.. و لكن بالحلال طبعا.. فالحرام لا يثمر أبدا مثلما كان يردّد العمّ إبراهيم دائما..


أخذ المكان يزدحم شيئا فشيئا أمام عيني صالح.. فعرف أنّه قد وصل إلى المدينة.. أرصفة منظّمة.. بنايات شاهقة.. دكاكين كبيرة متنوّعة لا تشبه دكّان العمّ محمّد في القرية.. توقّفت السّيّارة في المحطّة.. و نزل صالح متوجّها إلى المقهى الّذي تواعد فيه على اللّقاء مع عبد الفتّاح..


ـ المقهى المواجه للمحطّة.. سأكون في انتظارك منذ الصّباح الباكر..


كانت تلك آخر الكلمات الّتي ذكرها له في آخر مكالمة هاتفيّة.. دخل المقهى برهبة.. و أخذ يتصفّح الوجوه وجها وجها.. أين أنت يا عبد الفتّاح؟ أين وعدك لي؟ اتّخذ صالح مجلسه في أقرب طاولة إلى الطّريق في انتظار ابن عمّه.. و بسرعة البرق قدم النّادل يمسح الطّاولة مسحا روتينيّا.. 


ـ صباح الخير.. تفضّل.. ماذا تتناول؟

ـ قهوة.. أجل.. قهوة.. 

ـ سريعة؟

ـ نعم.. قهوة سريعة.. 


و في لمح البصر مضى النّادل لإحضار فنجان القهوة و هو يلقي نظرة خاطفة على روّاد المقهى الّذين كانوا على عدد أصابع اليد.. 


أخرج صالح هاتفه الصّغير من جيبه و نظر إلى الوقت.. أخذت الحيرة تنتابه شيئا فشيئا.. كيف لابن عمّه أن يتأخّر عنه بهذا الشّكل؟ ماذا سيفعل؟ سيـتأخّر عن موعد العمل الموعود.. و قطع تفكيره قدوم النّادل بفنجان القهوة نشطا مبتسما و كأنّ أبواب السّماء مفتوحة في وجهه على الدّوام.. ما سرّ بسمته يا ترى؟ من المؤكّد أنّه العمل.. بالعمل يستطيع أن يظلّ مبتسما.. بل ضاحكا مقهقها.. و ما الّذي سيحزنه عندما يجد جيبه مليئا بالنّقود كلّ يوم؟


العمل.. و ماذا ينقصني أنا أيضا؟ سيأتي عبد الفتّاح قريبا.. و سيعرّفني بمكان العمل الجديد.. إنّه يعرف المدينة شارعا شارعا.. بل شبرا شبرا.. إنّه يعرف كبار المقاولين و كبار البنّائين.. لذلك كان يعمل طول الوقت.. و كان العمل جاريا منذ انتقل إلى المدينة.. العمل متوفّر في المدينة.. أجل.. العمل متوفّر.. و لكن يكفي أن يفهم قيمته من يريد أن يعمل حقّا.. من يريد أن يبني حياته من الصّفر.. كان صالح يخاطب نفسه و هو يلقي نظرة على الهاتف تارة و نظرة على المارّة تارة أخرى علّه يظفر بعبد الفتّاح..


كانت الحياة تدبّ في أوصال المدينة بعد أن أطلّت الشّمس من وراء العمارات الشّاهقة.. فأخذ يتأمّل النّاس.. ملامحهم تدلّ على أنّ أغلبهم من سكّان المدينة.. يبدو أنّ معظمهم من ميسوري الحال برجالهم و نسائهم.. 


هو أيضا يستطيع أن يصبح مثلهم.. سيعمل في حظيرة البناء الّتي سيدلّه عليها عبد الفتّاح.. و سيقبض أجره في آخر كلّ أسبوع.. و سيحتفظ بمصروفه.. و سيرسل لأسرته نقودا عبر مكتب البريد.. و سيدّخر و يدّخر إلى أن يصبح من أعيان القرية.. له أرض زراعيّة و عدد كبير من الخراف.. يجزل العطاء في الأعراس و يحسب له ألف حساب.. سيتزوّج فتاة أحلامه مريم ابنة الحاجّ العروسيّ.. صحيح أنّها انقطعت عن الدّراسة مبكّرا.. و لكنّها مثال للحشمة و الحياء و التّربية الصّالحة.. لا ترفع عينها من الأرض.. تتقن جني الزّيتون و العناية بالماشية.. و تحسن إعداد الكسرة و كلّ ما لذّ و طاب من أطباق تقليديّة.. 


مرّت السّاعة الأولى و ارتفعت أصوات المنبّهات.. و تعالى هدير السّيّارات.. إنّها المدينة.. نعم.. إنّها المدينة بضجيجها و ضوضائها.. هنا لا ينظر أحد إلى الآخر.. لا يكترث بك أيّ شخص.. العمل و لا شيء سوى العمل..


عبد الفتّاح لم يأت بعد.. لقد نفد صبره.. الحلّ أن يهاتفه و يعرف سبب تأخّره.. أخرج هاتفه و طلب الرّقم المناسب.. و لكن لا أحد يردّ على المكالمة.. طلب مرّة و اثنتين وثلاثا.. و لكن لا حياة لمن تنادي.. مرّت السّاعة الثّانية.. و اشتدّت حرارة الشّمس.. و ازداد الشّارع ازدحاما.. و لم يأت عبد الفتّاح بعد.. لم يعرف صالح ما يفعل.. انتفض واقفا.. و أخذ يطوف على روّاد المقهى..


ـ من يعرف عبد الفتّاح؟ شابّ في مقتبل العمر.. أسمر البشرة.. يعمل مع أحد المقاولين.. معروف برصانته و جدّيّته.. يحبّ الخير للنّاس.. للنّاس جميعا.. و لم يكذب مرّة واحدة في حياته.. 


العيون شاخصة مستغربة.. لا أحد يعرف عبد الفتّاح.. لا يهمّ.. لعلّ أحد سكّان المدينة يعرفه.. قطعا سيدلّه أحدهم على مكانه..


نزل صالح إلى الشّارع يسأل المارّة بكبيرهم و صغيرهم.. كان يجول في الشّارع الكبير.. يسأل و يسأل.. كان لا يكفّ عن السّؤال بينما كان هاتفه في جيبه يصدر رنينا متواصلا..كان الضّجيج يملأ المكان.. شاحنات ضخمة.. منبّهات تصمّ الآذان.. صياح الباعة.. لم يفقد صالح الأمل.. إنّ حدسه لا يخطئ أبدا.. إنّه متأكّد.. متأكّد من أنّه سيجد عبد الفتّاح.. سيجده حتما.. سيجده حتما في أحد شوارع المدينة..    


** محمّد الزّواري ـ تونس **



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق