- (- أنتَ جِذر النِّعناع هذا يا بَابَا !!)..
جملة قالتها لي إبنتي ياسمين لأوّل مرّة, حين كانت في السّادسة من العمر, منذ أكثر من ثلاثة و عشرين سنة, وارتسمت كما الوشم في ذاكرتي.
وحكاية جِذر النِّعناع هذا, أنّني كنتُ أتيتُ به معي من مدينة القيروان في منديل مُبلّل سنة 1995 وغرسته في محبس صغير, ولكنّه سرعان ما ذبل واسودّ وتيبّس ولم يبق مه غير عودٍ صغير جداّ مُخضوضر ولكن أملط وبدون أوراق..
وبقيتُ لمدّة سنة كاملة وأنا أسقيه كلّ أسبوع بدون يأس, وكان أصدقائي الذين يزورونني يستغربون من تعلّقي به وعنادي القيروانيّ, وكان أغلبهم يطرح عليّ نفس السؤال تقريبا:
(- لماذا لا تشتري محبسا آخر من غرسة النّعناع التركيّ اليانع وسعره في كلّ السوبرماركات أقلّ من يورو واحد ؟؟!!)..
ولكنّ ياسمين ابنتي كانت تجيبهم بدلا عنيّ:
(- لأنّ جذر النّعناع هذا هوّ بابا..!!)...وتجري لتلعب في غرفتها..
ويبُس خلال هذه السّنوات الطوّال أكثر من عشرين مرّة, واسودّت عيدانه, ولكنّني أبدا لم أيأس منه..
وأنا أفتح صندوق رسائلي الالكترونيّة، أجد هذه الصّورة لمحبس النّعناع وتحتها فقرة صغيرة كتبتها إبنتي الحبيبة ياسمين وهي تنهي عامها الأخير بالجامعة بمدينة فرايبورغ البعيدة عني حيث أقيم بميونيخ, كتبت حبيبتي وابنتي ونور عيني باللّغة الألمانيّة:
(بابا..نعناعتك العنيدة تُلهمني قصيدة جديدة هذا الصباح..أتصوّر أنّه لم يعد من المُجدي أن أخفي عليك يا أبي أننّي أكتب الشّعر بطريقتي, وعموما أنت نفسك قلت لي مرّة بأنّ الشّعر شيء يمكن إستئناسه رغم خطورته..وأنا أكملتُ هذه السّنة دراستي الجامعيّة بتفوّق يا أبي, ولم يعد الشّعر بالتّالي خطرا مُحدقا ينبغي عليّ أن أحتاط منه لأنّه قد يختطفني في منتصف الطّريق وقد يسحلني ببدائيّة من شعري ويجرني بوحشية (صوب الغابة السّوداء, حيث لا شيء غير الوحدة أو المرارة) كما كتبت أنت يوما في تلك القصيدة القصيرة جدّا التي ترجمتها لي في ساعتين...ههههه..بإختصار يا أبي, وحتّى تطمئنّ أنّ المسألة برمّتها حالة وليست تفرّغا, واحساس وليس تطاولا على مقامات المحترفين من الشّعراء: هاهي صورة نعناعتك البديعة التي أهديتني اياها وحملتها معي لغرفتي بالمبيت الجامعي هنا بفرايبورغ, إلتقطّتها لك صباح اليوم بدون مؤثّرات تقنيّة..وفيها يا أبي الحبيب روحي, وشيء كثير من روحك..وفيها يا أغلى كنوزي وأروع بَابَوشكا في الدّنيا روح وسرّ القصيدة ..بكلّ الّلّغات أحبّك...وسأعود يا حبيب ياسمين الشّهر القادم ومعي محبس نعناعتك التي باركتني سبع سنوات في دراستي ...ستعود حبيبتك ياسمين ومعها عرق نعناعك التونسي العنيد الملهم....بالمناسبة وحتى لا أنسى كعادتي : حين تضيق بك امنا الدّنيا يا حبيب قلب ابنته انظر إلى السّماء وستراني...أنا أفعل ذلك دائما...وكم أنقذني وجهك المرسوم لي في السّماء من ضيق يا بابا....*)
لا أعرف لماذا تبلّل وجهي بالدّموع..ربّما لأنّني لم أقرأ منذ طفولتي قصيدا أكثر تأثيرا ووقعاً عليّ من هذه الرّسالة..وكلّ هذا بسبب رسالة إلكترونيّة من عود ياسمين غرسته منذ أكثر من ربع قرن، بسنوات أربع، في غير أرضه وبحفير حرث لغة غير لُغته, فأينع رغم ذلك...وبسبب صورة لعود نعناع, لم أيأس يوما من ايماني بحقه في الحياة, فألهم ياسمينتى قصيدا يتفجّر بأرقى وأنبل وأسمى ما ننشد من الشّعر الكونيّ الأبقى..شكرا ياسمينتي..شكرا عود نعناعتي الأصيل...
(كمال العيادي الكينغ)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق