سر الحقيبة: جولة تاريخية – ثقافية مصورة في عيون على التراث
الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت
قبل يومين نشرت على صفحتي في الفيس بوك صورة حقيبة خشبية قديمة، وطلبت من الأصدقاء المتابعة لمعرفة سر هذا الكنز الثقافي التاريخي المحفوظ في مكان آمن.
في برج كبير قريب من شاطئ بحر غزة تقبع شقة صغيرة تضم مؤسسة عيون على التراث للدراسات والأبحاث والنشر، في كل زاوية منها تحتضن وثائق معلقة، وثمة مكتبة كبيرة تحوى عشرات الكتب القديمة التي تم جمعها من مكتبات شيوخ وعلماء وكتاب غزة الأقدمين الذين رحلوا وتخلى ذويهم عن مكتباتهم، فاحتوتها المؤسسة مفاخرة بوجودها على أرفف مكتبتها. وتعود معظم هذه المخطوطات والوثائق والسجلات والعشرات من الكتب النادرة، للفترة الزمنية الممتدة بين أواخر العهد العثماني وحتى عام 1948. ويصل عمر أقدم مخطوط في هذه المؤسسة إلى نحو ثلاثة قرون، تحديداً لعام 1720 للميلاد.
كان لنا زيارة لمؤسسة عيون على التراث لمعرفة ما تحتويه مكتبتها من تراث ثقافي، بالإضافة إلى الاطلاع على جهودهم الكبيرة في عملية حفظ هذا التراث من التلف من خلال معالجة الأوراق الصفراء وترميمها. وقد اطلعنا على الأجهزة والأدوات التي تقوم بها الباحثات في المؤسسة لمعالجة الأوراق والوثائق القديمة، وهو جهد مضني، ولكنه عظيم لأنه بترميم ومعالجة هذه الوثائق النادرة التي توثق التاريخ والثقافة والتراث الفلسطيني، يعني الحفاظ عليه من الاندثار.
إن مؤسسة عيون على التراث وبعد لقاء رئيس المؤسسة الدكتور عبد اللطيف أبو هاشم، والمديرة التنفيذية حنين العمصي أكدوا أنه منذ تأسيسها في سنة 2009 أخذت المؤسسة على عاتقها إنقاذ كل ما يمكن إنقاذه من تراث غزة سواء من مخطوطات أو كتب نادرة أو مجموعات ورقية مختلفة، وتضم المؤسسة عدداً من الباحثات المتطوعات للعمل على ترميم هذا الكتب والوثائق، ولديهن رغبة كبيرة في التخصص في مجال حفظ المخطوطات وترميمها ومعالجتها وفق الأصول العلمية.
وأثناء زيارتها اطلعنا على حقيبة خشبية قديمة تحتفظ بها المؤسسة تحوى شهادة وكتب فقهية، وتعود هذه الحقيبة إلى فضيلة شيخ الاسلام الشيخ الجليل العلّامة الشاعر الأديب الكاتب المصنف اللغوي النحوي أحمد أبو المعالي ابن الحاج سالم بسيسو (أحمد بسيسو الغزي) وهو شيخ العلماء وكبير مشايخ الصوفية في غزة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. من مواليد حي الشجاعية بغزة سنة 1825م، ونشأ فيها وتربى وحفظ القرآن باكراً وانخرط في الطرق الصوفية وخدمتها وهو حديث السن. وأخذ الطريقة الخلوتية البكرية عن العلامة مفتي الشافعية الشيخ محمد نجيب النخال. تولى الكتابة في المحكمة الشرعية، ثم الإمامة والخطابة والتدريس في مسجد شهاب الدين، ثم تولى رئاسة مجلس المعارف (التربية والتعليم)، ثم استقال منها واعتذر عن رئاسة مجلس الأوقاف. تفرغ للتصنيف والتأليف والإفتاء، وظهرت له عدة مؤلفات فقهية وعقيدية وصوفية ولغوية، توفي في سنة 1911م.
إن المؤسسة تحوى كنزاً عظيماً يزيد عمره عن 120 سنة، وهذا واحد من الكنوز التي تحتويها المؤسسة من تراث غزة وعلمائها.
كما تعمل المؤسسة على تحويل الكتب والمخطوطات القديمة إلى كتب إلكترونية أو رقمية لحمايتها من التلف أو الضياع، وذلك من أجل الحفاظ على التراث الفلسطيني والعربي والإسلامي. حيث ترى المؤسسة والقائمين عليها أن من واجبها الوطني إنقاذ هذا الإرث الثقافي لهذه المدينة التي تتعرض للحروب والاعتداءات المتكررة، وكثير من هذه المخطوطات والكتب النادرة والأرشيفات والصور قد سرق، ومنها ما تلف واندثر، ومنها ما قد حرق بسبب العدوان الاسرائيلي المستمر الذي يتعرض له قطاع غزة. بعد الانتهاء من الأرشفة الالكترونية، يتم رفع هذه الكتب والمخطوطات بشكل إلكتروني أو رقمي على موقع المكتبة البريطانية ومتحف هيل.
وإلى جانب حفظ التراث تعمل المؤسسة على تحقيق الكتب التاريخية والفقهية والثقافية ونشرها ورقياً لمزيد من الوعي والمعرفة، وخدمة للباحثين والمؤرخين في تاريخ غزة وعلمائها.
قد تكون هذه المؤسسة ليست الأولى في مجال حفظ التراث، ولكنها الأكثر تميزاً ومثابرة وجهداً في العمل في هذا المجال، بما لديها الامكانيات البسيطة والأجهزة القديمة التي تعمل من خلالها على حفظ هذا التراث الثقافي، وذلك بجهود متطوعات اكتسبن الخبرة من مجال عملهن، وطموحهن أن يكون هناك مجال لاكتساب خبرة علمية من خلال الدراسة في معهد المخطوطات العربية، فهو المعهد العربي الوحيد المختص في هذا المجال.
لقد استطاعت مؤسسة عيون على التراث بجهودها الذاتية أن تشبك علاقات مع مؤسسات عربية وأجنبية، وتمكنت من تغيير نظرة العالم إلى غزة من كونها منطقة بحاجة للمساعدات الإنسانية والاغاثية، إلى مدينة عامرة بـالثقافة والفكر والأدب، أخرجت للعالم علماء مؤثرين تتلمذ على أيديهم العديد من علماء فلسطين والبلدان العربية.
وفي ختام جولتنا المصورة، نتمنى على مؤسساتنا الوطنية الرسمية كوزارة الثقافة، والمكتبة الوطنية الفلسطينية، واللجنة الوطنية للثقافة والعلوم، التعاون مع مؤسسة عيون على التراث ودعمها بالأجهزة والمعدات اللازمة لحفظ تراثنا الفلسطيني، فهو المؤسسة الوحيدة العاملة في هذا المجال بقطاع غزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق