- (عنز عمّتي روحيّة):
… لم يحدث، ولن يحدث وأن بلغ أحد، عندي، أو سيبلغ بلاغة عمّتي (روحيّة)، الفلاّحة البدويّة الأمّيّة، رحمها الله. كانت تعجن الفلسفة والشّعر بالحكمة، في تخريجات أظنّها من قطف عيون بلاغة الجنّ، دون أن تدري، وتردّ ضاحكة، كلّمَا طلبت منها إعادة جملة قائلة:
(- ألم تسمع، أو لم تفهم؟!…)….
وتمضي تطعم الكلب أو تطلق العجول من الزّريبة، ترضع أمّهاتها، لتستدرّ الحليب، قبل استحلابها. ولم يحدث وأن أعادت لي جملتها أبدًا….
كنتُ، في طفولتي أزورها ثلاث أو أربع مرّات في السّنة، خلال العطل. وأظنّ أنّها هيّ السبب في إنحرافي إلى وِجهة الأدب والكتابة… وحدث مرّة وأن وجدت عندها عنز حمراء شرود وعنيدة، كانت تشتكي منها كلّ الوقت وتشتمها بعبارات بذيئة…كانت بالفعل عنز مُستفزّة، تتطّ كلّ الوقت من سور الزّريبة الواطىء، وتأتي على علفة الكلب من النّخالة وتسفّ في ثوانٍ سقط قمح الدّجاجات، وتعيث في غرس البقول فسادًا، وتأكل كلّ الجزر واللِّفت وكلّ النّبت في أحواضها. ولم أرَ عمّتي حوريّة مُستوفزة وساخطة كتلك السّنة، وحين تُعييها الحيلة، كانت تقرفص منهارة، وتطلق سيلاً من الشتائم على (الخانسة)، هكذا كانت تُسمّيها. وعمّتي (روحيّة) تسمّي جميع ما حولها بأسمائها، حتّى الأشجار والدّجاج…. وغبت سنة كاملة، لم أزرها. فلمّا كان الصّيف، وصلنا (الدّوّار) حيث تعيش، في يوم صهدٍ، هبطت الشّمس فيه حتّى كادت تنقب الرّؤوس وتشوي ما يدبّ على الأرض، وما أن نزلنا من سيّارة النّقل الرّيفيّ الذي حرص سائقها، وهو من العائلة، على الوقوف بنا عند باب الحوش، خوفًا علينا من ضربة الشّمس، حتّى سارعت عمّتي (روحيّة)، تصبّ لنا حلاليب اللّبن البارد من دلوٍ (ويُسمّونه/ الشِّكْوَه)، كان مُعلّقًا إلى سقف الطّوبِ. فوالله، ما ذقتُ في حياتي بعدها ولا قبلها، ولا أظنّ أنّني سأذوق يومًا لبنا أطيب وأعذب وأروع من ذلك اللّبن….
وفي اليوم الثاني، رأيتها تجلس على حاويّة زيت مقلوبة، تمخض الدّلو (الشّكوة) وتدفعه بقوّة إلى الأمام، ثمّ تتركه يرتدّ لتعيد دفعه في حركة آليّة تتكرّر بنفس الوتيرة. فجلست قربها أتأمّل حركتها….ودُون أن أسألها، إلتفتت نحوي، وقالت: (- هذه هيّ / الخانسة)، ذبحها عمّك سليمان، لأنّها أكلت كلّ الوثائق التي يُخفيها في صندوق تحت السّرير. وفجأة، إنفجرت باكيّة وهي تمخط وتقول: - مسكينة توّه هيّ تعرف ؟!…تي هايشة، والله ذبحها وأنا في دوّار عمّك الطّاهر، أساعدهم في العُولة… ولو كنتُ هنا، لتركته يذبحني أنا ولا يذبحها….
ثمّ فتحت رباط فتحة الدّلو (الشّكوه) وراحت تخرج الزّبدة المتجمّعة أعلى اللّبن وتضعه في آنيّة من الفخّار. وكانت تكلّم الشّكوة، معاتبة، ولذهولي الشّديد، كانت تقول لها:
- كم مرّة رجوتكِ أن لا تثيري غضب (سليمان)، يا بنت الكلب…. كم مرّة ؟!….
وبلغنا بعد ذلك بأشهر خبر موتها في البئر، بعد أن بانت عليها أعراض الخبل والجنون. وهناك من يزعم بأنّه رآها تخلع نعالها وترمي بنفسها في البئر. قالوا أنّها ظلّت لأسابيع تجرى بين الزّريبة وأحواض البقول، تطارد عنزًا تتراءى لها من عبابيث الجان، على ما يظنّون، وهي تحضن الدّلو (الشِّكْوَهْ)، فارغا، لا تتركه، وتطلق شتائمًا بذيئة، جدّا، لا يُمكن أن تتفوّه بها إمرأة من الدّوّار أبدًا…..
(كمال العيّادي الكينغ)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق