عندما تنثر أزهار الشاعر التونسي القدير جلال باباي عبقها (-قصيدته (الومضة) احتراق الرمد..أنموذجا)
تصدير : “أبدا لن يموت شيء مني..وسأبقى ممجدا على الأرض.. ما ظلّ يتنفّس فيها شاعر واحد” -ألكسندر بوشكين-
مقدمة : قصيدة التجربة المُتخمّرة والذات الناضجة ..
قصيدة الدهشة التي تخبّئ بين كلماتها القليلة الكثير من طاقاتها وكلّما قرأناها ازددنا دهشة لأنها القصيدة الدائمة الإنتاج والمتحركة والقابلة لأيّ زمان
تتولد من ذاتها وتحقق الاستفزاز الذهني والاستنفار العقلي لدى المتلقي ولهذا أطلقت عليها مجازا لقب (القصيدة الحيّة )..
منذ العصر الجاهلي هناك ما يُعرف باسم قصيدة البيت الواحد ..
المتكون من دفقة شعورية واحدة لفكرة واحدة وهذا تماما ماتُبنى عليه القصيدة الومضة .
تكثيف وإيجاز شديدين وإيحاء عالي و إنزياحات شعرية ودلالية واختزال شديد لعدد المفردات فكرة واحدة وتعدد في التفسيرات والاسقاطات .
تخير المفردات القليلة يحمل ثقل الدلالات المتوالدة عن هذا التكثيف ما يجعل القارئ يستحث ذاكرته القرائية والمعرفية لأجل الإحاطة بهذا الكم من الدلالات المكبوتة في إطار رسم الكلمات والتي تتفجر كلما قاربها المتلقي بالقراءة،ليعيشَ الدهشةَ في كنف جمالية تفاعله مع النص.
ولأن واقع حال الشعر المعاصر هو واقع الرفض للقيود والتحرّر منها للبحث عن بديل للقصيدة القديمة،فإن لجوء كثير من الشعراء لهذا النمط إنما كان للتعبير عن هذا الواقع وإن لمسنا تواجده في تراثنا العربي من خلال التوقيعات.
غير أن حال قصيدة الومضة المعاصرة راجع لما لها من تأثير نفسي نابع من محاولة الشاعر اكتناز أكثر الدلالات ضمن إطار ضيق وكلمات أقل،كما تعد من وسائل القناع الذي يتخذه شعراء العصر إذ يمكنهم من تحميلها الدلالات المختلفة دون اللجوء للتصريح بها،ولعلها كذلك من وسائل إظهار تمكّن الشاعر وقدرته اللغوية الثقافية التي تبرز من كتابته لهذه القصيدة..
اتكأ الشاعر الفذ جلال باباي على حقول دلالية محددة أبرزها : الزمن،والحزن،والثنائيات الضدية.وقد سميت توقيعة؛لأن الشكل الشعري يشبه التوقيع في الرغبة في الإيجاز،وكثافة العبارة،وعمق المعنى،فيحول عبر التوقيعة شعريته إلى خطاب اتصاليّ يثير انفعالات المتلقي، ويجعله يشاركه مشاعره. فتثير التوقيعة لدى المتلقي الدهشة،وتدخله إلى عالم الشاعر،وتنجم شعريتها عن موقف انفعالي،وقد تأتي في خاتمة المقطع أو القصيدة،وقد تكون القصيدةُ قصيدةَ توقيعة/ ومضة. يقول شاعرنا جلال باباي :
احتراق الرمد
تعوزني اللغة..ويخونني الجسد
يهرب من قاموس القصيدة..المدد
ضفاف القلب
احتراق الرمد
إنها تجربة شعرية غاية فى العمق وآية فى الجمال،صاغها-شاعرنا القدير-جلال باباي فى اثنتي عشرة كلمة،ولكن بين هذه الكلمات آلاف من الكلمات والمعانى مسكوتاً عنها،وعلى المتلقى أن يتأمل ويبحث ويحلّل حتى يصلَ إلى ذروة المتعة الشعرية والتأملية..
تجربة عميقة وقوية تم رصدها فى كلمات قليلة تحمل كل معانى وعطاءات التجربة بين سطورها،فالتجربة هنا كالومضة التى تلقى بأضوائها على من حولها ولمساحات بعيدة حسب ثقافة وفكر كل متلق.
إن الإنسجام بين محوري الإختيار والتأليف،يكشف شعرية خطاب التوقيعة.وهو خطاب يضج بالثنائيات الضدية،والجمل المحولة من الصور الذهنية إلى الصور الخطية المنفية والمؤكدة. فجدلية الحياة لا تكون إلا من خلال ثنائيات الممكن والمستحيل،الرغبة والخوف..فالومضة شكل من أشكال الإنزياح الذي يباغت المتلقي ويخيب أفق انتظاره.فاللامنتَظَر هو تلك التركيبة الأسلوبية المتميزة القائمة على مصاحبة لغوية غير عادية.
والكتابة خطاب لا يمكن أن يتمرد دون وجود الآخرين.وهذا القلق يجعل الشاعر يمدّ يده إلى الآخرين محترقاً بالجمر،وقابضاً عليه.ولعل أهم ما يخرج به قارئ توقيعات جلال باباي أنها تركّز على رد فعل قارئها،لتصل به إلى مرحلة القارئ المثالي الذي يشكل جملة قراءات ناجمة عن قدرة تأويلية لديه،محاولاً إبراز الوظيفة الأسلوبية “الومضة” التي تظهر أدق تشعبات الفكر.
وقد مثلت هذه التوقيعة حالاً شعورية في قالب دقيق يعتمد سيلان شريط قزحي من الصور التي تضفي إشعاعاً على فضاء النص النابض بهموم الشاعر ومواجعه،والحافل بأزمات الإنسان المسكون بمشكلات الظلم والظلام..الوجَع والأحزان،تاركة انطباعاً في الشعور لا يمحى،وقائماً على الجمع بين المتقابلات والمتضادات بواسطة تيار من الأحاسيس المركزة.
من الجدير بالذكر أن نؤكّد على أن الذين يتصدون لكتابة هذه القصيدة (الومضة/التوقيعة) يجب أن يتخرجوا أولا من كل المدارس الشعرية المختلفة قديمها وحديثها،بدءا من المدرسة العمودية وحتى ما يسمى الآن بقصيدة النثر،وللحق أؤكد أن شاعرنا القدير جلال باباي قد تصدى لكتابة هذا النوع من الشعر باقتدار إذ يعلن بشكل غير مباشر عن اكتمال معينه الشعرى بكل أبعاده الفنية والإنسانية،ويعلن بشكل غير مباشر عن وصوله إلى قمة الهرم الشعرى والمعرفى. فشاعرنا له إصدارات شعرية كثيرة،كما أنه يكتب فى العديد من الجرائد والمجلات التونسية الشعر والمقال..هذا بالإضافة إلى مشاركاته في العديد من الملتقيات التونسية والعربية..
ختاما،أؤكّد أن من يجرّب في أي جنس أدبي عليه أن يتمتّع بتجربة متكاملة وغنية،تخولّه تجاوز المرحلة الإبداعية،إلى آفاق التجديد..
وهذا ما حدث في حالة الشاعرالتونسي المتميّز جلال باباي مثلاً،وتجربته الشعرية الغنية التي لم تنفصل عن حقيقة امتلاك الشاعر لرؤيا فلسفية متكاملة،مكّنته من التجريب في نموذج القصيدة الومضة بنماذج متألقة تسجَّل له.
قبعتي..شاعرنا الفذ..
لقد"فجرت" لغة شعرية عذبة،وومضة شعرية مدهشة.
محمد المحسن
الجمعة، 7 أبريل 2023
عندما تنثر أزهار الشاعر التونسي القدير جلال باباي عبقها (-قصيدته (الومضة) احتراق الرمد..أنموذجا) بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق