(سؤال طرحناه على نخبة من الشعراء التونسيين)
هل أخلى الشعر موقعه الفاخر في المشهد الابداعي للرواية..أم أنه لا يزال حارسا للفنون جميعا..وفائزا بقصب الرهان؟!
فواتح:
"سيبقى الشعر سيد الأجناس الأدبية والفنون الابداعية ما بقيت السليقة العربية الصافية.ّ (د-طاهر مشي)
“الشعر اعظم المظاهر الحضارية الخالدة للعرب،وسيبقى فائزا بقصب الرهان”. (الشاعر التونسي جلال باباي)
“سيظل الشعر على حاله،حتى تنهض الأمة من كبوتها،وتخرج من رمادها كطائر الفينيق " (الشاعرة التونسية فائزة بنمسعود)
تصدير :
الإبداع مسؤولية المبدع،وليس ترفًا أو لهوًا عابثًا،فكل موهبة وطاقة وقدرة آتاك الله إياها أنت مسؤول عنها فيما تقدمه من خدمات ومساعدات وإنجازات يتنعم بها الآخرون،وبذلك تكون قد شكرت الله على ما آتاك من نعمه،ومَن لم يضع موهبته وإبداعه في إطارهما الصحيح فإنه يُعدّ كافرًا بنعمة الله وفضله : {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17].
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن الشعر،هو دفقة وجدانية يخرجها الإنسان في حالة من القلق الوجداني والاضطراب العاطفي الداخلي وربما قلت إنها زفرة من زفرات الوجدان مختلطة بالفكر والعقل.
ولكن هذه الدفقة تختلف من فرد لأخر ومن إنسان لأخر على قدر وجدانه وفكره وعقله وحالته الشعورية.
الإنسان المبدع يقوم بتنمية هذا الحس وتدريبه وتنقيحه لأنه يستشعر في نفسه هذه الملكة او ربما شعر بها غيره فشجعه علي تنميتها والشعور بها حتي يصل الي درجة الرقي فيها
أركان القصيدة الشعرية.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع :
هل نزل الشعر من على كرسيه الوثير تاركا مكانه للرواية ؟!
ردا على هذا السؤال رفض شعراء ونقاد كثر ان يكون الشعر قد اخلى موقعه في المشهد الابداعي للرواية،“فالشعر حارس الفنون الادبية الابداعية وسيدها،على الرغم من تراجع اهتمام بعض شرائح المجتمع والمؤسسات الرسمية والخاصة”.
في هذا السياق يقول الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي :" مثّل الشعر العربي في مراحل حياته الممتدة عميقا في الثقافة العربية عبر قرون الفن الأكثر تأثيرا وحضورا في المحتمع العربي،فقد مثل الفن المعبر عن القضايا التي تشغل الإنسان العربي..ونجح في محاورة الأسئلة التي تشغله وعبّر عنها تعبيرا فنيا،إذ أنه (الشعر) يملك القدرة على التواصل مع المتلقي والتأثير فيه،أي أنه كان ينبثق في موضوعاته ولغته من الإطار الذي يتخلق فيه ويعبر عنه”.
ثم يضيف :" منذ العصر الجاهلي وحتى الآن الشعر ديوان العرب،و ما حدث في وقتنا المعاصر هو عدم وجود مؤسسة حاضنة للشعر،فبعدما كانت القبيلة تحتفي بالشعراء المبرزين، وتجعل منهم رسل محبة وسلام،وقادة رأي،وجنود يدافعون عن القبيلة،ومن بعد عن الدعوة الإسلامية،ببلاغة الكلمة وروح المعنى،إلا أنه للأسف الآن لا ناصر للشعر من المؤسسات على اختلاف توجهاتها الفكرية” .
وعزا-محدثي-(د-طاهر مشي) ما وصفه بــ “طفرة الرواية” إلى الانفجار المعرفي الهائل الذي يشهده العصر في ظل ثورة تكنولوجية أفرزت فضاءً رقمياً يُعلي من الفنون السردية،بل أنه يتيح المجال للسرد إبداعا وتلقيا،موضحا انه استخدم مفردة “طفرة” لأن الشعر أكثر خصوبة وديمومة وتأثيرا.
وشدد على أن الشعر سيبقى سيد الأجناس الأدبية والفنون الابداعية ما بقيت السليقة العربية الصافية.
ولفت إلى ان الحديث عما تعانيه الأجيال من فساد السليقة وهو فساد قاد الى تراجع الشعر لان كثير من المتلقين لم يعودوا مخلصين للشعر وتلقيه بسبب الثورة التكنولوجية التي أخلت بمعادلة التلقي الصافي للشعر والانحياز للسرد بتوظيف الاجناس الابداعية الاخرى،معتبرا أن الجوائز المالية الكبيرة المخصصة للرواية جعلت كثيرا من المبدعين يتوجهون للرواية على حساب الشعر الذي ينتظر عودة قوية. خاتما حديثه معي بالقول : “سيبقى الشعر حارس الفنون جميعا، والمعبّر الأول عن علاقة الوجدان بالوجود،فلا التغيرات الاجتماعية ولا التحولات السياسية قادرة على ازاحة مكانته الفنية”.
وأضاف"الطاهر" انه على مدار التاريخ الأدبي عربياً وعالمياً فهناك جيل من النقاد موازٍ لكل جيل مبدع،وللأسف اختفى أو تقلص هذا الجيل النقدي،بينما ازداد بشكل لا يمكن السيطرة عليه عدد الشعراء،وتعددت أشكال القصيدة ما بين العمودي والتفعيلة والنثر،فاختلط الحابل بالنابل، ولم يعد القارئ العادي يميز بين الغث والسمين،فهجر الجمهور الشعر أو يكاد.
ورأى أن القصيدة العربية بشقيها التفعيلة والعمودي تطورت بشكل لافت،مشيرا إلى كم من الشعراء الجيدين على مساحة الشعر العربي يفوق ما كان عليه الشعر العربي القديم ويتفوق عليه.
ولفت إلى انه رغم ظهور أدوات التواصل الالكترونية إلا أن التواصل ما بين الجمهور وهؤلاء الشعراء لا يزال في حدوده الدنيا،إلا من حملته القنوات الفضائية وأدخلته لكل بيت فلمع اسمه وذاع صيته بعيداً عن المستوى الفني لقصيدته.
واعتبر أن المشكلة الحقيقية تكمن في أنه ليس الأفضل من يبرز،وليس الناقد المحايد من يقدم هذا ويؤخر ذاك،إنما هي الحوامل والروافع.
وأرجع تسابق بعض الشعراء لكتابة الرواية لاتساع رقعة جمهورها وانكماش جمهور الشعر، بعيداً عن الجوائز التي تأتي في مرحلة لاحقة،معتبرا انه كما في الشعر فإن قليلاً من الروائيين الشعراء أحسنوا كتابة الرواية بينما الكثير منهم أصبحوا فائضا لا قيمة له.
ورأى الشاعر التونسي المتميز جلال باباي أن ما يشهده الشعر من تحولات شكلية هو امر بديهي وضروري،مؤكدا انه لا يخشى على الشعر ولا على اللغة العربية،وأن الشعر لن يهتز امام الرواية ولا امام السياسة،وسيظل الحصان الاسطوري الذي يصهل في السماء،واذا كان هناك من تخوف على حالة الشعر فهو كثرة المدعين وارباع المواهب الشعرية وما وفرته لهم وسائط التواصل الاجتماعي من سهولة النشر.
وأضاف : “الشعر اعظم المظاهر الحضارية الخالدة للعرب،وسيبقى فائزا بقصب الرهان”.
وختم بالقول :" لعل انفتاح القصيدة الحداثية على آفاق متقدمة عن السياق الاجتماعي والثقافي العام ساهم في تراجع دورها ومساهمتها في التأثير،ذلك أن الشاعر الحداثي سابق لزمنه ويرتاد آفقا معرفيا خصبا وبوسائل إنتاج غنية ومشبعة بآفاق ثقافية لم يتم استيعابها بعد على مستوى جمهور الشعر الذي ما زال تقليديا مشبعا بثقافة ماضوية.
وبحسبه فإن الشعر الحداثي قادر على التغيير اجتماعيا وثقافيا لكن ببطء،ولن يفتح المتلقي بثقافته التقليدية قلبه وعقله له بسهولة،لكنه في النهاية سيتمكن من فرض وسائله الفنية وتقدميته وحداثته.
أما الشاعرة التونسية السامقة فائزة بنمسعود فقد أكدت أن الشعر ما زال يحفظ منزلته،ولم يتغير،ولم تتغير المنزلة،وعلى العكس،زادت مكانته نتيجة الثراء في التنوع الفني والتطور الحداثي الذي طرأ على القصيدة العربية،مشيرة إلى انه لدينا القصيدة العمودية المتطورة جدا،وقصيدة النثر،وقصيدة التفعيلة،والشعر الحر،وغيره،وكل له جمهوره الخاص،هذا فنيا،وأما موضوعيا،فلدينا الشعر الفلسفي،والشعر التأملي،والشعر الوقائعي،والشعر الواقعي،وشعر الحب وشعر الحرب،والشعر الصوفي،والشعر المتصوف،والشعر الديني الوعظي.
واعتبرت ان المكانة المهمة التي يأخذها الشعر على منصات التواصل الاجتماعي من المتابعات،تؤكد أن الشعر موجود وباق،ولكن المؤثر عليه هو مشكلة المشكلات،وهي مشكلة التعميم..التعميم الخاطئ غير المستند إلى أي دراسة.
الشاعرة فائزة لم تعتبر ان الشعراء الذين ذهبوا لكتابة الرواية يوصفون بـ”التحول”بل إنها الكتابة التي تجعل الكاتب يتقيد بشروطها،فما يصلح لأن يكون قصيدة ربما لا يصلح لأن يكون رواية،أو قصة،وهكذا،وإذا كتب الشاعر رواية،فإنه لم (يتحول)،وإنما يكتب بفن جديد..وبروح متجددة.
وأضافت : “سيظل الشعر على حاله،حتى تنهض الأمة من كبوتها،وتخرج من رمادها كطائر الفينيق،حينئذ ستمجد شعراءها،وتحتفي بهم بوصفهم المقاتلين الأشداء،والشهداء الذين أسهموا في إعادة الأمة إلى حقل كرامتها،وبستان إبائها”.
واعتبرت،أن أُمّةٌ تفتقد كرامتَها وفرسانَها..تتنكّرُ لشعرائِها”.
وقالت “ارتبط الشعر العربي منذ وجوده بالفحولة والفروسية والإباء،فالشاعر فارس الكلمة، والكلمة أخت السيف في المنعة والقوة،وحين كانت الأمة بعافية،وسيفها مشهرًا ورايتها خفاقة، كان الشاعر لسانَ حالها،وعنوان رجائها ورجولتها،معتبرة انه “من الطبيعي حين تنكسر الأُمة، وتريق ماء كرامتها،وتنكمش على ذاتها باكية خائفة،أن ينمكش الشاعر،ويتحول إلى مهرج يرقص على الحبال”.
ورأت أن الشعر العربي يخوض معركة بقاء،معتبرة أن السهل والساذج في الكتابة فاز في الحضور،على العمق والاستشراف.
وأكدت أن القصيدة العربية الحديثة قد خرجت على محددات القصيدة الكلاسيكية العربية،ولكنها لم تجد حواضن تربوية في المناهج لتؤسس لحضورها في نخبة واسعةٍ من المتعلمين.
ودعت الى دخول القصيدة العربية الحديثة في المناهج الدراسية لمختلف المراحل المدرسية حتى تكون حاضرةً ولها جمهورها ومتابعوها،كما دعت أيضا لإدخالها بالمناهج والدراسات والأبحاث العلمية الجامعية قي مراحلها المحتلفة مما يدرِّب المتلقي على التعامل مع تقنيات وأساليب هذه القصيدة العربية الحديثة.
وخلصت إلى أن التراجع في حضور القصيدة الحديثة في ثقافتنا العربية المعاصرة مرتبطٌ ارتباطاً عميقاً بالاستلاب السياسي والثقافي والاقتصادي والتعليمي والانساني الذي يعيشه المواطن العربي,مبينة أن الشعوب الحرَّة أكثر قدرةً واستعداداً لتلقي مناخات الحرية التي يُبشِّر بها ويحملها الشعر بمدارسه الحديثة وتحملها القصيدة الحديثة بغموضها وتناصاتها مع التاريخ والأسطورة والطبيعة ومنجزات العلوم الانسانية في كل المجالات.
على سبيل الخاتمة :
إن الإبداع ترجمة للمشاعر والعواطف،والواقع الذي يعيشه الإنسان..والشاعر يختلف عن غيره،لأن لديه شعورًا فطريًا وإحساسًا مرهفًا،وموهبة من الله سبحانه وتعالى تجعله قادرًا على التعبير عن خلجات النفس البشرية وعواطفها،وعن الواقع،كما أنه يصوغ مشاعره وفكره بحيث تتماس مع الآخر،وتجد صدى لدى المتلقي والسامع..
و في تقديري أن “كل شاعر فيلسوف،وليس كل فيلسوف شاعر"
فهل يكون الفن للفن والمتعة فقط كما ذهبت نظرية الفن للفن،أم يكون الفن للمجتمع ومعالجة قضاياه ومشكلاته دون التقيد بفنيات الإبداع .
لا شك أن الفن والآدب هما مرآة المجتمع،وقلبه النابض ..
ولكن كلما كان الفن والأدب يعليان من شأن المجتمع ويعالجان القضايا المجتمعية والوطنية والإقليمية مع الإهتمام بالجماليات والفنيات وتحقيق الإمتاع..كان الإبداع متحققًا والفائدة قائمة.
لهذا فمن رأيي أنه إن الإبداع شرط في العمل الأدبي مهما كان غرضه.
ومن سمات الإبداع التجديد على مستوى البنية والمضمون واختلاف زاوية التناول،ومكاشفة الوجدان بطرح جديد وآلية تعبيرية غير نمطية،مشتقة من رؤية تتوازى مع المشاعر الوجدانية تبعث الخلق الإبداعي،الحركة والتناغم والتنغيم داخل النص،وتحقق الدهشة والإمتاع..بحيث يتماس معها المتلقي،وتشكل اللاوعي الجمعي.
فيكون بمثابة زاوية إنعكاس لبقعة ضوء صوتية تتمادى في الأفق الذهني،والوجداني له..
والشعر هو فن التعبير الذاتي،وكلما أتقن الشاعر التعبيرعن ذاته،تأثر الآخر به وتماس معه، فتتسع الحالة الذاتية لتصبح توجه تعبيري عام.
فالشعر خاص،لكنه يعبر عن التشكيل الوجداني العام..عن ديناميكية الذات وتمردها والرغبة والمكاشفة والتحرر.
محمد المحسن
الأحد، 23 أبريل 2023
محاورة الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق