الثلاثاء، 23 فبراير 2021

دراسة نقدية لديوان "ظل الغزال " للشاعر الدكتور مراد بيال من الجزائر بقلم الدكتور الناقد شاهين دواجي

 جديد في عالم النقد الأدبي//

صدر للشاعر الدكتور مراد بيال من الجزائر مقيم بفرنسا ديوان شعري بعنوان "ظل الغزال " عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع بجمهورية مصر العربية . فارتأى الدكتور الناقد شاهين دواجي من الجزائر بعمل دراسة نقدية لهذا الديوان الشعري.
وللعلم أن هذا الديوان نفذت طبعته الأولى في زمن قياسي في انتظار طبع طبعة ثانية مستقبلا بحول الله.
***الدراسة النقدية//
ظلّ الغزال ، أو حنين بطعم الكرز:
من الصعوبة بمكان أن تكتب غربتك بحبر الفرح ، لأنّك – حينها - ستكون جامعًا للنّقيضين ، الماء والنار ، الأسى والأمل ، الفرحة والوجد ، وقد حدّثتنا كلاسيكيّات الشعر العربي من لدن المقدّمة الطّلليّة عن هذا الكثير :
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم *** يقولون لا تهلك أسًى وتجمّل ولنا أن نتحسّس شدّة الفجيعة المنكتبة في بيت الملك الظّليل حين استوقف وبكى ، ولعلّه كان مؤسس هذا التّقليد ، وهكذا المرور على ديار خولة وأمّ أوفى وميّة ، كلّ هذا الوجد كان ينسج بين ثنائيّة الغربة والفقد ، وليس من المبالغة في شيء أنْ نقول حينئذٍ أنْ الصّعاليك – على جنونهم – كانوا الأشدّ وجدا على فراق الدّيار مع كون رحيلهم اختيارًا أملاه ماكان منهم مما يخالف أعراف الثقافة حينذاك .
هذا هو أولّ ما يتحسّسه القارئ حين يشرع في فكّ أولى شيفرات ديوان "ظلّ الغزال" للشاعر مراد بيال ، شاعر من أصول أوروبية قذف القدر بعائلته من غرب التنوير ، نحو جزائر المآسي ذات حزن ، لم يسعه أن يفطم عن جزائريّة وهو يتسامع بأخبار والده الذي اختار الوقوف مع الحقّ ، وبذل النّفيس من أجل بلد أرادها موطنه اختيارا بعد رحيل الرّصاص ، ولكنّ السّياقات تفرض على الشاعر أن يستعيد غربة أبيه لاعتبارات تتعلّق بالحقّ في العيش الكريم ، وكأنّ الحياة أرادته هناك ليحسّ الغربة بشكل ما ، شكل يختلف عما ألفناه من كلاسيكيات الشعر العربي .
في سياق كهذا كتب الشاعر باكورة أعماله ظلّ اي الغزال ، وإذا كان العنوان أهمّ عتبة مخوّلة بجمع الشّتات النّصي فسيجد القارئ نفسه معترفًا ضمنيّا بذكء العلامات المشكّلة له ، فلن يكون الظّلّ يومًا أصل الكائن إنّما هو تابع له في سياق ما يشكّله الضّياء ، ومن ثمّة فلا وجود لهذا الغزال إلّا في وجدان الشاعر ، ما يطرح سؤال التحفّظ وامكانيّة الوجود الحقيقي بعنف ، وفي النهاية سؤال أنطولوجية الذات الشّاعرة ، ليس هناك الكثير من الأمل في غربة مليئة بالوجد في أن يكون للغزال وجود حقيقي ، إنّما هو ظلّ تأمل الذات المبدعة في أنْ يرمّم اليباب الذي ترسّب داخلها عند حدود الفقد ، وهذا " اللّاوجود ( الظّلّ) سيكون كافيا لأنه كلّ ما تتيحه الغربة بترسّباتها وتراكماتها .
في مرحلة ثانية سيكون على الذات أن تصنع إلهها ، وتنحته من تحت أنقاض اليباب ، عمل شبيه بالحاجة إلى الربّ التي اجتاحت المتديّن القديم حين شعر بالخواء الرّوحيّ فانطلق ينحت آلهة بيده ، تارة يعبدها لاعتقاده أنّها محلّ الألوهيّة ، وتارة يغالط نفسه عمدا فيكرّس في ذاكرة الآخر – التابع خصوصا أنّها مسكونة بالخير – بالرغم أنّه في أثناء تعاظم محنه يرفع يديه إلى السماء مستجديا ومصدّقا فطرته القديمة ، ولكنّه من جهة أخرى يرودي الوجود الحسّي للربّ السّماوي ، إله على مقاسه ، يسمح باللّذة ، ويقدّم باقات السّعادة كلّ شروق ، ذلك هو ما يقدّمه مراد الغترب طيلة ديوانه ، حين كشف له الإغتراب خيبته الكبرى ، وانّه لن يتيح له أكثر من ظلّ لغزاله ، قام بنحت غزال يعبده ، لينهي بذلك نغمات الحزن وينطلف في عزف الفرح ، سيكون القارئ بعدها أمام غنائيّات كثيرة تبتعد كثيرا عن ساحل الإغتراب ، وتبلغ به إلى الخوض في غمار تجاذبات هي من مخلّفات النّسوية في شتّى مراحلها التاريخيّة . سنقرأ الكثير من الغزل والكثير من العتاب ، والكثير من التهتّك ، وسنستمع إلى الكثير من الأغاني ، ولكنّ كلّ هذا لن يصبّ إلى في منطقة مظلمة داخل الذات ، منطقة تؤثّثها الحاجة إلى إله ، أو لنقل هي الحاجة إلى الحبيب ، وتحت وطأة الإغتراب هي حاجة إلى وطن . و إذن فالأحكام التي تحاول القراءة الأولى تصديرها إلى الذات القارئة ليست إلّا وهما وظلّا كظل الغزال ، وتقويضها يستدعي إقامة انشباك بين الأنثى التي تسيطر على ثنايا النصوص ، والوطن الذي بقي عالقا داخل الذات الشاعرة ، هنالك نحن أمام جماليّة تقرأ بعدّة عيون ، وتقرأ عدّة نصوص من عيون الشّعر العربيّ ، لعلّ أهمّها في جانبها الانطولوجي قصيدة هذا أنا للرائع الجواهري : هذا أنا عظم الضحيّة ريشتي**** ولفح دمائها أضوائي فتحاول الذات أن تؤسس لفردانيّة شبيهة بفردانيّة المتنبي ، أو لفحولة شبيهة بتلك التي يعتزّ بها الرجل الشرقي : استمع إليه في قصيدة ( أعترف ) :
اعترف
دون نفاق او رياء
اني كنت زير النساء
ابحث عنك فيهم
في صدف البحر
في حجر الزمرد
في كثبان الرمل
في اعماق البحيرات
في الواحات
سافرت بين المجرات
دخلت دهاليز الأهرامات
فقيل لي ما تبحث عنه لم يكن
و ربما لا يكون
فعشقت لأجلك كل العيون
من كل طيف و لون
و مارست كل أنواع العربدة والمجون
و انا على حافة الجنون
فجأه وجدتك بين صاد و نون
سيكون علينا هنا ان نقرأ الزير في سياق الثّقافة الشرقية ، وإذن فعلامة الزير ليست إلّا حيلة من حيل بلاغة النّص جاءت لتؤثث لحنين إلى الدّيار ، وأخذها على ظاهرها أو على مستوى تأويليّ ساذج لن يكون سوى أحد الرّضوض في كيان المآل الدلالي الذي يحرص الشاعر على سلامته .
من زاوية أخرى سنجد تعالقا وثيقا بين شتاء ريتا الطويل لدرويش وبين ظل الغزال ، لأنّ كلّا من الشاعرين سيعمد إلى إخفاء الوطن خلف صورة المحبوبة ، بصرف النّظر عن علاقة الذات الشاعرة بالوطن ، فدرويش الذي أحبّ ريتا ( اسرائيل ) ورمت لآلئها عليه ، وجرت شهواته خلفها كالغدير ، وولدت – كما قالت لكي تحبّه ، سيكشف للقارئ أنّ ريتا ليست سوى خديعة ثمانية وأربعين التي التي أسّست لنكبة فلسطين ، ومراد سيخفي وطنه الجزائر خلف عشيقاته ليسلو بهنّ عنه ، نحن إذن أمام قلب جميل للمنظورات الشعرية ، ولقطات تناصّية نبيهة ، تقوم على تفريغ العلامات من مضمونها ، وشحنها بمضمون آخر ، بتعبير ديريدا ، تحطيم العلاقة بين الدال والمدلول تمهيد للتشظّي الأكبر .
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق