الأحد، 14 فبراير 2021

مسيرة بقلم طارق الصاوى خلف

 مسيرة

أوقفنا مارد حليق الرأس مع أول تماس لاقدامنا بمحطة قطار المركز، رمى قمصيه فى وجوهنا، ظهرت الكتلة العضلية لذراعيه تضاهى فخذ فحل جاموس، صاح بصوت فيه خنف : صف واحد يا ولاد الديبة.
تحاذت مناكبنا ، وشى بعضنا بالإشارة بأصبعه على من هرب متنكرا لانتمائه للقرية، شقت البنات طريقهن للمدرسة، تنحدر من عيونهن دموع حسرة على فتية اعتمدن عليهم لصد من يزين له شيطانه أن يمسهن.
سألنا وحش حذرنا الأكبر سنا من تحديه : أنا مين ياوناد (ولاد) ...... !
أجبنا بهتاف هز قضبان السكة الحديد: عمنا عطوه أبو مطوه.
قال : طابونبن طابونبن( طابورين )
هشنا بخيزرانة و ساقنا كقطيع، توقف المارة فاتحين أفواههم للذباب من الدهشة ، تغامزوا، تبادلنا نظرات ألم ، ضحكوا، أخرج عطوه شق موس من سقف حلقه، ضرب به وجه متنطع لم يفسح الطريق لموكب يقوده ، سال دمه و استعمر الوهن صدورنا .
ضرب لنا موعدا عند باب المدرسة: لما يضرب الجرس اعملوا طابور و استنونى.
دلفنا للحمامات نفك الحصر الجماعى، نغسل عن وجوهنا كدرة الحرج.
علقنا جبننا على شماعة أباء جعلونا ديكة لا تصيح، شغلونا بالعمل فى الحقول و المذاكرة ، يعنفوننا بقسوة إذا تشاجرنا، وحين ُكتب علينا العراك عجزنا عن تطبيق نصيحتهم الذهبية " الجرى نصف الشطارة ".
صار كلما لبينا له طلبا طمع فى سماحتنا، اتخذنا من ملاطفتنا أداة لمنع أذاه عنا، حشونا أمعائه بما تطاله أيدينا من ثمرات الحقول .
هدم أول جدار فى خزان صبرنا بنذالته صباح امتحان، توعد أن يمسح الأسفلت بمن يمد قدمه نحو باب المدرسة، تململ ماجد، سحبه عطوه من قفاه ليربطه فى عامود الكهرباء، تقافزنا حوله، دفعناه، استخلصنا بأيدينا زميلنا، انتفخت عروق عنقه، انتظمنا فى طابور لطع كل منا قبلة على رأس الأحمق ليدعنا نلحق بقطار مستقبلنا، طلب منى ساعة تزين معصمى ، نزعتها من يدى، ربطت سوارها حول معصمه، اشترطت عليه أن يعيدها لى عند خروجنا، قلبها فى يده كطفل امتلك لعبة، تحلل غضبه، غنينا: كفاية يا عطوة أرضى وارتاح .
رمق عقارب الساعة، صرخ فينا : طياره على الامتحان
علمنا عطوه فن الدفاع عن انفسنا، زج بنا فى مشاجرات افتعلها مع الباعة فى الشارع، كسرنا اقفاص دون أن نفسد البضاعة، حافظنا على عهده حتى قرصت أصابعه الآثمة وجنة ليلى ، انتفضت نخوتنا، فرضنا بأجسادنا عليه طوقا خنقه، طوح كفيه، حطت على وجوهنا شحنات غضبه، ثبتنا، حذرناه: إلا البنات يا عطوه.
قذفنا بعين تطلق شررها، لف حزام بنطاله على معصمه، طاح فينا، أصاب كل فرد منا بضربه، طوينا مؤقتا صفحة التحدى، عاد للصف انتظامه، تلفعنا بالصبر للوصول للخلاص.
التئم مجلس حربنا فى دوار ماجد من العشاء للفجر، لردع عطوه بعد تحوله لذئب، اقترحت عليهم استدراجه لركوب القطار، ننزله فى قريتنا، نسوى معه حساباتنا، ردوا: أنه نفس الأسلوب الفاشل لمن طبقوها قبلنا و جعلوه ينتقم منا بسببهم بينما هم بعيدون عن مرماه،
توصلنا لخطة تعاهدنا علي تنفيذها، تحمل نتائجها – كرجال - لو أخفقت فى كسر شوكته .
تخطيننا أسوار المدرسة بعد دق جرس الفسحة، قطعنا الشارع الشاهد الصامت ولعله الساخر على مهزلة شاركنا فيها بعدم اعتراضنا، أشهرنا الأسلحة سكاكين، مناجل وبلطة،
اقتحمنا قهوة يتسيدها، اتخذ كل فرد موقعه،
لم يشعر عطوه بنا إلا و المنجل على رقبته و سكاكين مغروسة فى مناطق مختلفة من جسده و بلطة تعلو أم رأسه، زعق بفزع: النملة طلع لها أسنان.
واجهته كثعلب ينازل أسدا، وضعت المصحف على المائدة: مد ايديك أقسم عليه قبل أن نمزقك .
هز يديه كزلزال ستة درجات بمقياس ريختر، تماسكنا، تخطت نصال السكاكين قميصه، غرست فى لحمه، أحس بجديتنا، مرر ماجد المنجل عض برفق عنقه فى بروفة قبل حصاده.
تكسرت أرادته ، تهاوت مقاومته ، رأيت لأول مره وجهه محفورا به خريطة من ضربات المطاوى ، تشريط الأمواس، تاريخ مر لشقاوته، معاركه التى لا تنتهى.
مد يده مستسلما للخروج من حلقة الموت المضروبة عليه، أعلنت شرط عفونا – الوحيد عنه : لا تقترب من أى بنت من كفر الديبة .
أقسم ثلاث مرات
نظر إلينا كأنه يرانا لأول مره وخطوط من الشعر الأسود فوق الشفاه .
سألنا بصوت رائق، هادئ، خال من الانفعال والعصبية: ما الضمان أنى لا أكذب عليكم ؟
أمسكنا بالنادل من قفاه، جعلناه يحلف عشر مرات أنه لم ير أو يسمع شيئا حتى نحافظ على مهابة عطوة بين أبناء المدينة.
وضعنا أمامه مائدة بها طعام لا يقاومه فطير، عسل النحل ، جبنه معتقة و لفافة بها وزة مشوية، وضعناها تحت عين أشواقه،
تراجعنا خطوة للخلف، وقفنا صفا، هتفنا بطريقة يحبها: تسمح نأكل عيش وملح يا عم عطوووه .
نهض وعينيه تغرقهما الدموع ، فرد ذراعيه، احتضننا كدجاجة تضم أفراخها، اعتذر بقبلة على الرأس، صفق ،تمايل بجذعه و غنى: أسف يا وناد (ولاد)... الديبة ، اسف يا وناد .. الديبة.
طارق الصاوى خلف


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق