الأحد، 14 فبراير 2021

مقدمة الديوان العربي المشترك في رحاب الوجدان بأنامل الأديبة جميلة بلطي عطوي

 مقدمة الديوان العربي المشترك بأنامل الأديبة جميلة بلطي عطوي

يقول ابن جنّي ( 322للهجرة – 392 للهجرة) عن اللّغة هي " أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم" بذلك تكون اللّغة أسمى سبل الوصول إلى الآخر فهما، تبليغا وإقناعا. هي اللّغة التي لا تستقيم الحياة بدونها بقطع النّظر عن شكلها إذ قد تكون أصواتا، حروفا أو مجرّد إشارات لكنّها تعتبر العمود الفقري لكلّ علاقة وكلّ تواصل ومن هنا احتلّت اللّغة منزلة رفيعة في الثّقافة وأولاها الجميع ما تستحقّ من العناية بل الاحتفاء.
اللّغة إذن وسيلة الأفراد للحفاظ على ما تجيش به صدورهم وهي وسيلة الشّعوب للحفاظ على الموروث مهما كان جنسه ولعلّ هذه الحقيقة تدفعنا إلى التساؤل عن العلاقة الوطيدة بين اللّغة والثّقافة وعن الخيارات الأجدى للرقيّ بهما في ذات الآن.
يقول ابن خلدون ( 1332 -1406 ) " اِعلمْ أنّ اللّغات كلّها ملكات شبيهة بالصّناعة إذ هي ملكات في اللّسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها" . من هنا نتبيّن حسب ما يذكر ابن خلدون أنّ اللّغة ملكة في منطلقها، صناعة في تطوّرها تحتاج إلى المراس والتّثقيف حتّى تكون النّتيجة جامعة مكمّلة وتلك لعمري مسؤوليّة تتطلّب وعيا بالواقع لغة وثقافة والتزاما.
من أجل ذلك كان التّفكير والتّدبّر وعرفنا منذ القدم ما حظيت به اللّغة من العناية تطويعا وتطويرا ودعوة إلى أن تواكب التطوّر الحاصل في الحياة والحضارة فانبرى الرّواة والمدوّنون والنّقاد على قدم وساق حتّى يتمّ مشروعهم على الوجه الأكمل.
ولعلّ الأمر في أياّمنا هذه بات عند البعض هاجسا ومطلبا من جديد، يستدعي تكاتف الجهود للوصول إلى الغاية المنشودة، إلى ردّ الاعتبار إلى اللّغة التي ادّعى البعض أنّ نجمها أفل فما عادت قادرة على أن تواكب تطوّر العلوم، عصر العولمة ونمط الحياة الجديدة بل لعلّنا لا نفشي سرّا إذا أشرنا إلى ما بات عليه الأولياء من انسياق وحرص شديدين على صقل مواهب أبنائهم في اللّغتين الفرنسيّة والانجليزيّة لاقتناعهم أنّ اللّغة العربيّة ما عادت تفي بالمطلوب في سوق الشّغل.
في هذا الصّدد نشأت الجمعيّات الثقافيّة والمؤسّسات الأدبيّة حريصة على ردّ الاعتبار إلى اللّغة العربيّة وجعل هذا الحلم واقعا ولعلّ مؤسّسة الوجدان الثّقافيّة تعدّ نواة هامّة في هذا التّوجّه وخاصّة في خضمّ هذه الطّفرة من الكتابات على الفضاء الأزرق التي تستدعي وقفة واعية وجادّة، لذلك كان التّفكير في منهج سلس يخدم اللّغة، يثري الثّقافة وفي ذات الوقت يفتح الأفق أمام المتعطّشين إلى تسجيل بصمة في المجال الأدبي.
الثّقافة الجمعياتيّة أو الجماعيّة تجربة تسعى إلى تأسيس رؤية مغايرة للأدب تجمع الجهود لكي تصبّ في عمليّة التّلاقح الفكري والجمالي بحكم التنوّع ضمن الإصدارات الجماعيّة في مجال الشّعر والقصّة وغيرهما من الأجناس، تجربة تخرج المبدعين من حصار التّصنيف وتتيح الفرصة للجميع على قدم المساواة ليبقى الفيصل بينهم الصّناعة الأدبيّة وجودة ما يقدّمون إلى المتلقّي ثمّ إنّ هذا التّوجّه يعدّ بادرة طيّبة في تقليص المسافة بين الأجيال وفي إفساح الطّريق أمام اللّاحق كي يتعلّم من السّابق وإن بدا العكس في بعض الأحيان ممكنا إذ قد يوجد في النّهر ما لا يوجد في البحر.
وقد كان لمؤسّسة الوجدان الثّقافيّة دور هامّ في تكريس هذا التّوجّه من خلال مبادرتها الثقافيّة ... سلسلة في رحاب الوجدان .. سلسلة ورقيّة تمّ خلالها إصدار ديوانين خاصّين بالشّعراء التّونسيين وها نحن بصدد الإصدار الثّالث الذي تميّز عن السّابقين بكونه يجمع الشّعراء على المستوى العربي. عمل ثقافي جادّ يهدف إلى:
- تكريس نظام العمل الثّقافي الجماعي
- العناية باللّغة من خلال المتابعة والتّأطير
- فتح آفاق النّشر أمام المبدعين عموما وخاصّة منهم الأدباء الشّبّان في زمن تعذّر فيه النّشر أو كاد.
وفي هذه الأعمال تبقى اللّغة والقدرة على ترويضها وجماليّتها الفيصل بين مبدع ومبدع ويبقى الشّعر كما سيعرض في هذا الدّيوان عصارة النّفوس ورحيق القرائح وقد وردت القصائد كالآتي:
1 – الشّعر العمودي: يقول الشاعر محمد الزواري
يا ليلة الإسراء عودي علّنا *** نحيا و نحيي الأرض والأعلاما
ذا موطني سكن الضّلوع فأطلقوا *** في الصّدر ناب ذئابهم و سهاما
لمْ نجنِ غير الجرح في أوطاننا *** لمْ نجنِ إلاّ فرقة وخصاما
لمْ نجنِ غير الحزن يعصف هائما *** حتّى استحال مع الكلوم خياما
يا أرض عذرا إنّني ذاك الفتى *** لا يملك الأحلام والأوهاما
2 – الشّعر النّثري:
يقول الشّاعر عبد الرّحمن بوطيب
في معبد قديم
على مشارف حقول حزن
فوق سحابات عذراء لمْ تحبل بقطرة ماء
اِنزوى المحارب وحيداً
تَمْلأُ قلبَه جراح
ليس بعد اليوم لقاء
يعلو بردهات المعبد نواح
تأفل نجوم سماء
"يانوس" سدَّ الأبواب كلّها
"مايا" العرساتِ اليانعاتِ طلّقتْ حَليلَها "البركان".
3 – شعر التّفعيلة:
تقول الشّاعرة ناجية فتح اللّه
نـحبُّ الوَطـنْ
ونخشى عليهِ لهـيب الفِـتَـنْ
فتونـس قـلبي
وتونـس حبّي
ومهما تقـلّبَ فـيها الزّمَـنْ
فخضراءُ تـبْـقى
بسِـفْـرِ الخلود
فتونس بحِـرٌ وشعْـبي السُّـفـنْ.
4 الخاطرة:
تقول الشّاعرة روضة الجبالي
دمعك سقيم، وقلْبك كليلٌ ؛ لملمْ رفاتك وأطلقْ سراح فكرك ، وَتحرَّرْ مِن أثقالك...
توضّأْ بِماء قدرك ، لك الْعزْم يتحدَّى مسارك الْمُفرغ ، لمَ لا تتجمّل بدنياك رفيقها الْهزِيل ولّى ، لا مناص إلَّا الانْتفاضة من شرعيَّة أحلامك ، صبْرك شديد يا قلب وأيّامك قصار !!!
قصائد تنوّعت واختلفت لكنّها تآلفت في حرص أصحابها على جودة العبارة، جمال الصّورة وسموّ المعنى، حديثا عن الذّات أو الآخر جماعة أو أفرادا وهو ما يسجّل بكلّ وضوح مفهوم الثّقافة الجماعيّة باعتبارها حصيلة التّفاعل بين الشّاعر وبيئته، باعتبار المثقّف حمّال هموم الجماعة ولسان حالها المعبّر وهو المضحّي براحته من أجل إعادة الاعتبار إلى الذّات، إلى القيم والإنسانيّة. دعوة جليّة إلى تكريس الأدب رسالة الإنسان إلى الإنسان، يشدّ عضده، يحفّزه على الفعل والهدف السّامي دون أن يغفل الدّعوة الضّمنيّة إلى مكارم الأخلاق، إلى التّعايش السّلمي والإنسانيّة الفاضلة . . إنّه الأدب والشّعر على وجه التّحديد مجال تعميد وطهارة إذا كان صاحبه واعيا بأهميّة الرّسالة المناطة بعهدته باعتباره قدوة ومثالا يحتذى به، وقد صدق ميخائيل نعيمة (1889م – 1988م) حين قال: " عجبت لمن يغسل وجهه عدّة مرّات في النّهار، ولا يغسل قلبه مرّة في السّنة"
هذا مدخل وجيز أضع فيه العمل في إطاره الثّقافي متمنّية أن يجد فيه المتلقّي ما يروق.
مع تمنّياتي بمزيد التوفيق والنّجاح لهكذا مبادرات جادّة .
جميلة بلطي عطوي

هناك تعليق واحد: