الأحد، 27 فبراير 2022

الجنديّ الشّهيد، قصّة تأليف د. زهرة سعدلاّوي كحولي

 

    الجنديّ الشّهيد، قصّة من أيّام الحجر الصحّي، ومن صدى أحزان الزّمن الرديء اليوم، زمن الحروب والتناحُر البغيض.

تأليف د. زهرة سعدلاّوي كحولي

 

    يحمل على ظهره حقيبة خضراء داكنة يتخلّلها لون رماديٌّ وأسودُ...كانت الحقيبة مليئة بحاجيات الجنْدي عُموما، يبدو المحْمول ثقيلا، لكنّ صاحبه يَتنقل به بأرْيحيّة، يصعد سفح الجبل، يُحادث زميله، يلتفت إلى آخرَ يُناديه. كان يسير في مجموعة من الجنود أصدقاء الكتيبة، وأمامهم قائدهم الذي بدا صديقا حميما للجميع يُلاطفهم، ويسألُ كلَّ واحد عن  أحواله  برفق، وتَوَدّد.

     حطّوا رحالَهم على سفح الجبل من جهة الشّمال مساء. وقد وصلوا إليه قبيل المغرب.. الفصل ربيع يقترب من نهاياته، والطقس نديّ قليلا، إنّه سفح الجبل، ما إن تتوارى الشّمس وراء الأفق حتى يتلحّف المكانُ ببرودة  تؤذِن بليل قد يكون لاذعَ البُرودة..أشعَلُوا سِراجا ووضعُوه بجانبهم، كوّنوا حلقة مُستديرة مُتّحدة. فرشوا على الأرض بساطا من البلاستيك الخشن، دائريّ الشَّكل، أخضر اللّون داكنه، يتشكّلُ بلوْن الأرْض ما إن يَلتَصق بها... وبادر كلّ منهم بوضع إناء يَحتوي زادَهم الرّمضانيّ الذي يَحْتاجُونَه طيلة المدّة التي سوف يتغيّبون فيها على مشارف السّفح، ثم في عمْق الجبل، مُهِمّتهم تفتيشٌ جيّدٌ لمَا يربط بين قمّة الجبل وما امتدّ من تحتها، أو على يمينها، أو يسارها من وِهَادٍ، ومُنخفضات تعين الخارجين عن نظام الدّولة على الاختفاء فيها.

     صَففَ الجماعة أوانيَ الأكْل الواحدةَ تلوَ الأخرى، وكانوا قد تركوا بقيّة الزّاد والزُوّاد في سيّارة- الأندروفر-  وبقوا ينتظرون أذَان الإفطار. وكان كلّ واحد منهم مُلازما لبندقيَّتِه ولِمَا يحْتاجه من بقيّة أسلحة لا تفارقه. هم لم يأتوا في جولة جبليّة ترْفيهيّة، بل صعدوا السّفح تفتيشا على جماعة  إرْهابيّة  هاجمت  صباح يوْمهم هذا المُتساكِنينَ المُجاورين وقتلت منهم ثلاثة أشْخاص كانوا قد بلّغوا السّلط المَحلّيّة بأنّ عناصر اتّخذت من جبل "سمامة" مَخبأ لها، وأنّها تُهدِّدهم بالقتل..

     إنّه شَهرُ رمضان، شهْر الصّيام المُبارك...حلّ الجَماعَة بالمكان، ظنّا منهم أنّه المكان المُشتبَه به، وبعد رُبُع ساعة بادَرَهم رئيس الكتيبة بقوله: "إفطارا شهيّا أيُّها الجُنود الأبطال".  تناول كلّ واحد منهم حبّات  تمْر وكأسَ حليب، ثم نهض البعض منهم  لآداء صلاة المغرب، وبعدها تجمّع  الجنود صحْبة قائدهم لتناول الإفطار.

     كان الجماعة يُمَازِحُون بعضهم بعضا بالحديث تارة وبالنّكات تارة أخرى. أمَّا جهاد فقد كان مَسْكونا بصورة ابنه ذِي الخمس سنوات وقد ودّعه صباح اليوم، ووعَده بأنْ يَعُودَ في أقرب مدّة مُمْكنة، وسوف يحمل له معه هديّة عيد ميلاده وسوف يشاركه الاحتفالَ به بعد يومين فقط من تغيُّبِه عنهم. كان جهاد مُتحمّس لإكْمال المُهمّة قبل حُلول يومِ عيدِ ميلاد ابنه.

     كان يتناولُ طعامه وعيناه تفتّشان فيما قد يخبّئه  المكان من حولهم من مُفاجآت تتعلّق بمُهاجمَة أحد الإرهابيين لهم، وكان يُهيّئ نفسه للانقضاض عليه علّه يفوز بحسم المُهمّة، ومن هناك يُسهّل له ولزملائه العَوْدة سريعا. لكنّ زميله الذي كان بجانبه لكزه بمِرْفقه قائلا أن كُلْ وشاركنا مرحنا وكفَّ عن الذَّهاب بعيدا بتفكيرك. قَصَّ عَليه هَمْسًا رغبته في الانتهاء من المُهمّة سريعًا حتى يُشارك ابنه فرْحة عِيد ميلاده الخَامس. وحتَّى لا يُكرّر التَّغيّبَ عن مثل هذه المُنَاسَبَة السَّعِيدَة.

ناداهُمْ زميلهم المُقابل لهم في حلقة العشاء، بِمَ تهْمِسُون، أنا أعلم المَوضوع، لقد أخبرني جهاد بقصة عيد ميلاد ابنه والتي لم يحْضرها السّنة المَاضيَة، وكيف أنّ ابنَه أكّد عليه أن لا يتأخّر في الحضور هذه المرّة.

    رفع رئيسُ الكتيبةِ رأسَه عن  الأكْل، وهو يبتسِمُ إن شاء الله سوف نَعُودُ سريعا وسوف نُنْجزُ  المَهَمَّة بنجَاحٍ وتوفيق. أرجو من الله أن تشارك ابنك هذه المرة فرحته بعيد ميلاده. 

     ضحك الجميعُ، وردَّدوا بصوت واحد "إن شاء الله" سوف نحضر هذه المناسبة وسوف نقاسم ابنك فرحته. وإن خبزة الكعْك سوف نشتريها نحن وسوف نفاجئُه بالهدايا التي يُحبّها. وأعقب رئيسُ الكتيبة سوف يعيننا جهاد على انتقاء ما يرغب ابنه في اقتنائه بهذه المناسبة السعيدة.   تظاهر جهاد بالفرح فشَاركَهم ضحكهم، ولكنّ إحساسا بالانقباض ظلَّ مُسيْطرا على نفسه.

     قام زميلهُم وليد، وكان مُختصًّا في تحضير الشَّاي ليُعدّ لهم شايًا أخضر لذيذا. وبعد لحظات أنهى الجماعَةُ الدّور الأوّل والثاني من شرْب الشّاي الذي كان وليد يبدع في تحضيره حيث كان يَتفنّن في سَكْبه في كأس عريضة غارقة ثم يُوزّعه يعيد سكبه في البرّاد ويعيد صبّه عليهم في كؤوس صغيرة تكفّل خصّيصا بجلبها معه.لقد علت الكؤوسَ رغوةٌ صفراءُ،  تُحْدِث رنينا موسيقيّا جميلا وتنبعث منها رائحة النعناع الشّذيّة، توحِي بأنّ الشّاي فعلا شهيُّ الطعم، لذيذا.

آوى الجميعُ إلى الخيمة المنتصبة وراءهم لينالوا قسطا من الرّاحة، وانتصب جهادّ عند المدْخل يراقب المكان وسوف يبقى هناك إلى السّاعة الثانية ثم يدخل ليأتي مكانَه زميلُه وليد، صاحبُ الاختصاص في تحضير الشّاي الأخضر اللّذيذ.

     خيّم السّكون من حول المكان وأغْرَقه في صمْت ثقيل ثِقَلَ الجبال الرّاسية، وكانت تتعالى إليه بعضُ الوشْوَشَات الآتية من بين أكداس الحجارة، ومن تحتها ، إِنّ نباتِ السدْر مُتفرّع هنا وهناك حيث تتّخذ الزّواحِفُ جحورها في أمن وأمان، وكذلك كانت تنبعث رفرفة جناح طير يَتحرّك داخل عُشّه من فوق نبتة شيح، أو إكليل، وكان يُبْعث من بعيد صوتُ هديلِ حمام يناجي صمْت الطّبيعة في استكانة يبدّدها امتداد الكوْن، ويُرجع صداها حزينا يَتلقّفه عمْق الفضاء التائه في طبيعة مُنفتحة على أرجاء  السّمَاء بلا حدود.

أمّا الحيوانات الأُخرى فقد اسْتكَانت واسْتجابت إلى صمت المكان وكان من حين إلى آخر يَسمع من بعيد زفرة قويّة ضخمة، وكأنّها آهة مُوجِعَةٌ لحيوان ضخم، تخيّل أنّه قد يكون ثوْرا وحشيّا، أو ضُرْبَانًا ينتفض مكانه كي يَتخلّص من بعض أشواكِه المُقلقَة.

              خاطب نفسه في استغراب:"أهذا هو جبل سمامة، أَلمْ نقرأ في دروس الجغرافيا أنّه سابع أعلى مرتفع في تونس إذ تبلغُ قمّتُه 1314م. يقع في الوسط الغربي التونسيّ وهو مُغطّى بغابة من الأشجار ، ويُوجد بولاية القصرين، وها قد كتبت الصُّدفُ ووجدت نفسي وبعضًا من أصدقائي في مُهمّة  تفتيش هذا الجبل القَصِيِّ، والذي يشكّل مكانا اتخذه الخارجون عن النّظام والسّلطة وكْرا لإرْهاب غيرهم من الأبرياء لمُجرّد إيمانهم بأفكار يرونها هم مختلفة عن الفهم الصّحيح للدّين الحَنيف.

إنّه انحياز لا وُجود له في معتقداتنا اليوميّة ولا في عاداتنا التونسيّة، فنحن شعب مُسالم، مُنفتح على الآخر، ولا نَكِنُّ له سوى الاحترام والتّفاهم.

      كان جهاد يَهْمس إلى نفسه مُسْتغربا أيُعْقل أن تتَكرّر مثلُ هذه الجرائم المُرْعبة في تونس؟  !أصحيحٌ أنّ الحالَ وصل بنا إلى طريق مَسْدود يُحكّم فيه القتْل والغدْر والإرْهابُ إنْ لزِم الأمر ! الأمور كلّها أصبحت تُحَلّ بالعنف وإرْهاب الآخر، وقتله والانتقام منه بلا سبب ولا بيّنة!

لقد سبق وأُفشِلت عمليّةُ رمضان الماضي، وهاهي جَماعة من الانتماء نفسه تَعُودُ هذا الصَّباح الباكر لتُعيد نفس العمليّة، وتقتل من لهم بهم عداوة من جيرانهم سكّانِ المنطقة...

     أغرق وجهه ورأسه في حفنات مُتتالية من الماء كيْ يُجَدّد نشاطه ..نظر إلى ساعته وتمْتم الوقت لا يزال مُبكِّرا على إيقاظ زملائي لتناول سَحورهم. سوف أتمشّى قليلا ثم أعُود لإنْهاضهم.

توغّل في الفضاء المحيطِ بهم، صعد السّفح قليلا، وكان يُخفي مصباحه الضَّوئي الصّغير كي يستدلّ به على التعرّف على الطريق إن صادف وتعطّل جوّاله. إنّه سفح مليء بالأشواك، وببعض النباتات الطُّفيليّة. تشابكت في المكان نباتاتُ الإكليل والزّعتر، والشّيح، وبعض النّباتات الأخرى من جنس الحلفاء والسّمارى. كان يُحاذي تلك النباتات على مهل، أو يقفز عليها ببطء كي لا يُحدِث صوتا فيثير شكوك من قد يكون مُختبئا هنا أو هناك من الإرهابيين الأعداء.

   توقف قليلا استلّ هاتفه الذّكي من جيب جمّازته ليتابع أخبارا قد تصل من أحد المسْؤُولين، أو تتكلّم عن مُهمّتهم.  أبْحرَ عبر مُختلف المواضيع التي تُودِعُها الإنترنيت، ذاك الجهاز الجامِعُ لِكلّ ما يَجري في عالم القرية الصغيرة. ظهر له عنوانٌ لافت ومن بعده فقرتان تتَحدّثان عمّا جرى بجبل سمامة  فجْر هذا اليوم حيث يُوجَدُون الآن، دَفعَه الفُضُولُ أن يقرأ بتمعّن ما سبق وجرى من أحداث أخرى دُوِّنت  على النت وتمّ التًّعليقُ عليها، ورغم علمِه بحَيثيّات الموضوع، فقد أعاد قراءة ما يلي: " أفادت وزارة الداخلية أنّ الوحدة الوطنيّة للبحث في جرائم الإرْهاب والجرائم المُنظّمة والماسّة بسلامة التّراب الوطني تمكّنت بالتَّنسِيق مع الإدارة المَركزيّة للاستعلامات العامّة، الخميس 16 ماي/ أيار 2019، من إحْبَاطِ عمَليّةٍ إرهابيّة تمّ التّخطيطُ لتنفيذِها خِلال شهْر رمضان وذلك بالكشف عن مَخزن للمُتفجّرات بجبل سمامة التّابع لولاية القصرين، كان مُعَدًا لاستهداف الدّوريات الأمنية والعسكرية بالمِنطقة"، وواصل القراءة بانتباه شديد

"وأشارت الوزارة، في بلاغ أصدرته الجمعة 17 ماي/ أيار الجاري، أنّ العمليَّة تمّت بناء على معلوماتٍ اسْتخبَاراتيّةٍ دقيقة مَفادُها تخطيطُ عناصر ما يُسمَّى بـ"كتيبة عقبة بن نافع" لاسْتهداف الوَحدات الأمْنيّة والعسْكريّة بالقصرين، مُبيّنة أنّه تمّ في ذات العمليّة حجزُ 11 لغمًا أرضيًا مُعِدًا لاسْتهْداف العَرَبات والأشخاص وسِتِّ بطاريات وجهاز تَحكّم للتَّفجير عن بعد، وكميّة هامّة من مادّة الأمُونِيتر، وأكثر من ثلاثين كلغ من المُتفجِّرات، وثلاثةٍ وثلاثين صاعقًا وسلاحًا ناريًا نوع "Magnum" وجهازًا لاسلكيًا".

وأكّد الخبرُ أنَّ الأبحاثَ لا تزال مُتواصلة لدى الوحدة الوَطنية للبحث في جرائم الإرْهاب والجرائم المُنظّمة والمَاسّة بسلامة التراب الوطني بالتّنسِيق مع النِّيابَة العُموميَّة بالقطب القضائي لمُكافحة الإرْهاب"، ومِمّا شدّ انتباهَه أكثر تلك الصّور المرافقة للخبر المُطوّل، والتي بدَت له غريبَة وخَطيرَة، فكان يَتمَعّن النّظر ويُطيل التثبّتَ في الأكْيَاسِ، ويَتسَاءَلُ عن فظاعة الجرائم المُخَطّط لها...

   وفجأة رأى على ضوْء القمر ظِلَّين واقفَيْن وراءه، واحدٌ على يمينه والآخر على يساره... أحسّ بأنّ سكِّينا كالسّيف تَقْبِض على رقبَتهِ، فلا يسْتطيعُ الحرَكة لا يَمْنَة ولا يَسْرَة. ارْتَعَبَ، وتسَمّر مَكانه بلا حركة ولا أيِّ كلمة، كيف له أن يخرج من هذا الكمين الخطير؟

خاطبه صوت أبحّ وأجشّ أَن اجْلِسْ على رُكبتيك ولا تَتَحرّك. وركَلَه على  مؤخّرته بضرْبَة يبدو من خلال وَقعِها أنّ صاحبها يرتدي حذاء ثقيلا ومُصفّحا، طلب منه بكلّ غلظة ووَحشيّة أن يُصوّب رأسه إلى الأرض، أنزل رأسه حتى كاد يُلامِسَ أشْواك "القندول" الشّوْكيّ الحَادّ، ولكنّ الغريب لم يكتف بالأمر فألْحَق بالجنديّ ضرْبَة على رأسه بمُؤخّرة رشّاشِه الغليظ، وهو يُعَربد قبّل الأرْض أيَّها الجُنديّ الأبْله، مِمّن أخَذْتَ الإذْن حتى تسْمَحَ لنفْسِك بالتّجوَال في فجَاج الجبَل قمّتُه وسفحُه؟ هذه ممْلكتنا؟ أجِئت تبْحَث عَمّن تدْعُونهُم بالإرْهابِيين؟ ألا تعلم أنّ هذه الأراضي ملكٌ لنا وليس لأحد الحقّ في دخولها، أو التّطاوُل على من يسْكنها. أَجئْت لحتفك برجليك؟.رفع سيفَه عاليا..نظر إلى صاحبه نظرة استفسَار...أجابَه برأسه مُوافقا أن انْحَرْ ولا تسْأل...وفي أقلّ من لمح البَصر انفصل الرّأس عن البدن...ورأى ابنه يناوله قطعة المُرطّبات وهو يُغني "عيد ميلاد سعيد" شكرا بابا على وفائك بالوعد.."عيد ميلاد سعيد بابا"..عيد ميلاد...غاب في فجاج الجبل وهو يتدحرج في ثنايا ضوء يُبْهر العَينين...يَفتح له مَمَرًّا  تَشعُّ أضواؤُه... تستقبله حوريّات مُغنيّات مُردّدةً "عيد ميلاد سعيد بابا". فاض الدَّمُ الأحْمرُ القاني شآبيب تسْقي الزَّعتر والإكليلَ والشّيحَ،  وتصنع بستانَ الشَّهيد وهو يُحَلّق على جناحي الضّوء الأخضر، ويَمْتطي مَركبة الشّهداء الفِضيّة...

وَقَفا قريبًا من خيمة الجنود وهم يتناولون سَحُورَهم، تمدّد أحدُهما وهو يمسك بالرّأس ويسدّدُ مرماه إلى داخل الخيمة. لقد أصاب المرمى عندما ظنّ الجنودُ أنّ جهاد يمازحهم ويلقي لهم بحجر كي يوقظهم. نادى وليد تقدّم يا جهاد أردناك أن توقظنا في الوقت المناسب فتأخرت ...

سمعوا قهقهة من وراء الخيمة وصوتا يردّد لقد جاءكم رأس جهاد ليوقظكم...رجموهم برأس جهاد ملطخا بالدّماء التي لازالت تنزف من رقبته، وتغسل وجهه وتَسيلُ من عينيه. دقّق وليد في الكتلة التي ظنّها حجرا رماهم به جهاد فصاح صيحة مُزلزلة، مُدوّية لقد غُدِرَ بنا يا أخوتي... لطَمَ وجْهَه وضرب رأسَه بمُؤخّرة بندقيّته...هذا رأس !هذا ليس حجراً...هذا رأس جهاد...انظروا إليه...لقد استقبل الموت مُبتسما ...أكيد أنّهُم علموا بمجيئنا ونصبوا لنا فخًّا.. لذلك وجدنا المكان الذي ظننّاهم مُختبئين فيه خَاليًا..يا لخسارتنا...يا لَهزيمتنا...

 أراد جهاد أن يستكشف مكانهم وحده لأنّه شكّ بأنّ الكهف تُرِك لنفسه خاليا بتدبير إرهابيّ. لقد أحبّ جهاد أن يكتشف حضورهم بالمغارة تسريعا في إخبارنا لمواجهتهم والقبض عليهم ... لقد استدرجوه وأشعروه بالأمن ثم اصطادوه ونحَروه...لقد أخبرني بأنّه سيتجوّل قريبا من الخيمة ويعود ليوقظنا لتناوُل السَّحور، وهاهو يقع فريسة سائغة بين أيديهم.

هبّ الجَماعَة ورَموْا ما بِأيْدِيهِم من أكل وانْتصبوا صَفًّا واحدا تُجاه المصدر الذي رُمِيَ منه رأسُ الشّهيد ...جروْا شَذرَ مَذرَ في كلّ الاتجاهات...قادَهم حدْسُهم وكانوا خمسةً إلى الغار الذي توَقَّفوا عنده  ليلة البارحة وظنوا أنّه مَهْجُورٌ، ولكنّ الإرْهابيين الثلاثة كانوا يُراقبونَهم من بَعيدٍ ويرْصُدونَ مَكَانهم.

تمَّ تبادلُ إطلاق النّار بقوّة وثبَات من الجُنود المُجاهدين، وردّ الإرْهابيُّون ردّا مليئا بالحِقد والرِّغبَة في الانتقام...سقط مِنهم اثنان وفرَّ واحد.

جُرحَ أحمد ابن بلد جهاد وصديقه المقرّب إليه جرحا ليس بالخطير فسارع اثنان من زملائه بالنُّزولِ به إلى سفْح الجبَل، ومن ذلك إلى مُنعرَجٍ بالطريق حيث ركنوا السَّيارتين بعيدا عن الأنظار ليأخذوه إلى قسم الاستعجالي...

انقسم العزاء إلى نصْفين...لُفّ تابوت الشّهيد بعلم الخضراء...أحاط  به الجُنود وهم يَنشُدون مُردّدين "يا شهيد الوطن لا تحزن كلُّنا فداء للأرض التي سَقيْتها بدَمِكَ جرّاء الغدر وبيع الضمير...جرّاء الخساسة والنّذالة..."

وفي غرفة بعيدة عن النَّعش  نَصبَ الجنود طاولةً ووضعوا عليها طبَقا كبيرا به كَعْكة عيد الميلاد وكانوا يحيطون بــ"يوسف" الطفل ذي الخمس سنوات ويُغنّون معه "عيد ميلاد سعيد" وهو يبتسم وعيونهم ممتلئة دموعا حرّى مُوجعة. كان يوسف يقلِّب الهدايا الجميلة، ولكنّه كان يسأل من حين لآخر أين والدي؟ لقد اتَّفقْنا أن يُسلِّمَني هديّتي ما إن يَعود من مُهمّته؟ ردّ عليه وليد هذه الهدايا كلّها لك... أبوك في طريقه إلينا... فردّ عليه باستسلام ، وانكسار خاطرٍ "الهدية التي وعدني بها أبي ليست هنا...لقد وعدني بمُسدّس كوبوي"... صمت "وليد" وهو يُوارٍي دمعة نزلت من عينه حارّة كالجمرة...تمتم: "لقد فاتنا أن نهْديك مُسدّسا يا ولدي"...

                                                                      انتهت القصّة

التاريخ: زمن الكورونا، زمن الوباء...

د. زهرة سعدلاّوي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق