حوار مع الشاعرة التونسية د-آمال بوحرب*
"دائماً سيبقى من يحفظ للشعر حقّهُ.وبما أنّ الشّعر كائن حيّ،فهو يحتاجُ لمزيدٍ من الاهتمام، ومزيدٍ من الإنفتاح به على الجهات،وكسر للقوالب التي تخنقه،ليفرد جناحيه محلقاً متنفّساً ما يشتهي..هكذا نضمن لهُ حقّهُ في الحرية." (د-آمال بوحرب)
"ويظل النص الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ : اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم،حركةُ الحياة ونضجُ المخيلة." (د-آمال بوحرب)
ترى الشاعرة التونسية الفذة د-آمال بوحرب أنّ الشاعرَ الحقيقي دائم القلق،وأكثر قرباً من واقعه،وملتزم بما يدور في فلكه،يحاول دائماً أن ينبش في الأشياء،ويحفر في الأرض ويمضي حاملاً أوجاع الحياة ومرارة الواقع،ليرسمَ لوحةً من الكلام الشاهق،ويلُّم ما تناثر في الكوكب من رخاوة في المشهد المعاش،ويتعارك مع الكائنات ليعود لنا رافعاً تلويحة أملٍ في غبش الحياة المحاصرة بالدياجير والمواجع.
وفي حوارنا معها فإننا ندخل في المسافة بين الجمالية الفنية والفعالية الفنية التي تمتلكها جل قصائدها،ونتقصى أبعاد تمسكها-أحيانا-بقصيدة النثر ومدى مشروعية-هذه الأخيرة-وهيمنتها على المشهد الشعري العربي المعاصر،ونستشرف بالتالي جدوى الكتابة في حياة المبدع..
راهنت الشاعرة والكاتبة السامقة د-آمال بوحرب على الاحتفاظ للقصيدة بمتعة الدهشة وتحفيز الذوات القارئة على التفاعل الإيجابي مع النص بإعتباره محصلة-زواج-سعيد بين وهج التجربة الحياتية والإستدعاء الواعي والذكي لصور وتمثيلات تجد أساسها في الموروث الشعري العربي القديم أو التجارب الشعرية الغربية.
-ما أقصى أنواع الظّلم الّتي ترينها تمارس في حقّ الشّعر العربي؟
*دائماً سيبقى من يحفظ للشعر حقّهُ.وبما أنّ الشّعر كائن حيّ،فهو يحتاجُ لمزيدٍ من الاهتمام، ومزيدٍ من الإنفتاح به على الجهات،وكسر للقوالب التي تخنقه،ليفرد جناحيه محلقاً متنفّساً ما يشتهي..هكذا نضمن لهُ حقّهُ في الحرية.
-أيّ العوالم ترتّب من خلالها هواجسك الشّعريّة؟
* طقوس الكتابة؟! أومن بذلك ولا أومن.ولكنّ حالة الكتابة تختزل كلّ شيء،تضغطهُ في اللحظة،فيها تختلفُ المفاهيمْ،ويصبح الانسجام-في الكائن-لا مفرّ منه.عدا ذلك،أستطيعُ أن أخبركِ أنّ (الهدوء،فنجان القهوة،سكون الليل-رهاب-الورقة البيضاء..)،طقس أنسجم معه، وأجدني مُتصالحة مع ذاتي ومع العالم ضمن هذا السياق.
- كيف تقيّم-د-آمال بوحرب-حركة الشّعر الحديث؟
* هي حركة،كما التي نعرفها مسطرة في كتب التاريخ الروحاني للإنسانية،تشتمل على الجيد المُغاير،والسيئ الرديء،والزمن سيكونُ حاكماً عادلاً يفرزُ ويفصل،ويحكم بالإستمرار والخلود لكل ما يستحق ذلك،الجميل في الحركة الشعرية الجديدة أنها تنحى منحى تجريبي يُنتج أحياناً ما هو مُدهشْ،وقادر على التواصل مع روح عالم جديد،ومُستمر في تجدّدهُ،والشّعر كذلك.
-يفترض الإقتراب من تجربتك الشعرية بمختلف تجلياتها النصية صوغ سؤال البدايات.ويهمني بإعتباري ذاتا قارئة أن أسألك حديثا عن بواكير أو إرهاصات الوعي بأهمية القول الشعري : هل كان للأمر تعلق برغبة في التعبير بطريقة تتسم بالمغايرة والاختلاف؟
* سؤالك هذا أيقظ أشياء جميلة تقتنيها الذاكرة..وأعادني إلى لقائي الأوّل بالشّعر،ذاك اللقاء الذي كان يُوشِكُ أن يكونَ سطحِيّاً في البداية،وذا طابع عاطفيّ إلى حدّ بعيد..ولكن يبدو أن اعتمالا مضطرما يضارع الإختمار كان يجري في داخلي مبكّرا،تفجّر هكذا في لحظة -صفاء- لا أكثر،في شكل-ومضات-شعرية تمخضت عنها قصائد..وقد حاولت منذ البداية في أعمالي الشعرية أن أمزج ما بين الشعر والنثر،وهذا يظهر جليّا في أعمالي الأمر الذي جلعني أكتب قصيدة نثر تحمل رؤية مغايرة عما هو سائد في قصيدة النثر العربية،ومن ثم فأنا أحاول جاهدة في كل عمل شعري أن أقدّم شيئا جديداً ومختلفاً عما أصدرته سابقاً..
-في رأيك هل استطاعت قصيدة النثر أن تنتزع لها مكانا في منظومة الحس العربي؟ وهي التي أتاحت لعدد غير قليل أن يدخلوا مدينة الشعر بدون حق؟
* قصيدة النثر ليس فقط أنها استطاعت أن تنتزع لها مكانا في خارطة الشعر العربي المعاصر، بل انها تتصدر الآن المشهد الشعري وبجدارة.واذا كان الشكل القديم المنظوم عموديا أو بالتفعيلة ما يزال يجد أنصارا له،فإنّ أولئك الأنصار شعراءا وقراءا في تناقص.لقد تم نزع “القداسة” عن “نظام”القصيدة القديم.وتلك من أجمل الثورات التي حققتها الأجيال الجديدة من الشعراء.
- ماذا يعني لك الشعرُ في اللحظة الراهنة ؟ماذا أعطاك الشعر؟وهل عبّرت قصائدك عبر أعمالك الشعرية عن شخصيتك وتجربتك ورؤيتك الإبداعية؟
* الشعر-في تقديري-هو الحياة،موسيقى الروح وديدنها،رئة أخرى للجسد،الشعر يعني الانفلات من عقال الزمن،التعبير الحقيقي عن مواجع الإنسان في زمن ضللنا فيه الطريق إلى الحكمة..لذا،فقد أعطاني (الشعر) الكثير من معنى الحياة وحب الناس والتسامي،منحني حالة من الكشف في اللغة وتراكيبها والبناء المحكم للمفردات وقراءة الكون والكائنات والإبحار في عوالم جديدة،وجعلني بالتالي أرى العالم بلغة مختلفة تعبر عن مكنونات الروح والنفس البشرية، كما جعلني أيضا أعبّر عن شخصيتي بمفاتيح رؤيوية جديدة وأقترب أكثر منيّ لأكون اكثر جرأة في الكشف عما هو مستور في دواخلنا.
- كيف تتشكّل القصيدة لديك.انفعال،عزلة،انكسار،أم لحظات صفاء؟
* النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك،بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ،وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ.ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ، باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال…الخ.وهذا يعني أنّ- القول الشعري-لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين : لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.ضغط اللحظة الواقعية،كونها الباعث الأول على القول،وضغط اللحظة الشعرية،بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية.
في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ حين يتلقّف اللحظة الواقعية،أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً،ليلقي بها في مصهره الداخليّ،ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ، وتحولاتٍ جمّة،حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة،أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.
ويظل النص الشعري في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ : اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم،حركةُ الحياة ونضجُ المخيلة.
-من وجهة نظرك كشاعرة،كيف يكون الشعر،وما هي وظيفته،وما هو مفهومك الخاص للحداثة بعيداً عن تنظيرات الأخرين؟
* من وجهة نظري،لا يخضع لوظيفة بعينها،وقد اختلف الفلاسفة في هذا الأمر من أرسطو وغيره من المفكرين والفلاسفة الكبار،هذه مسألة يضع لها معايير كل حسب رأيه ورؤيته ومعايشته للحياة وتقلباتها،أما أن نضع وظائف معينة فأعتقد أن هذا ليس منطقيا،الشعر أيضا حالة يعيشها الشاعر وهذه الحالة ربما تستمر أشهر حتى تتمخض عنها قصيدة بعد مخاض طويل،بمعنى آخر القصيدة ليست متاحة في أي وقت،القصيدة كما قلت سابقا هي التي تقتحم الشاعر وليس الشاعر،هكذا أنا أتعامل مع قصيدتي وهكذا أفهم القصيدة وأدعها تتسلل إليّ وأفرد لها مساحة كبيرة من التأمل كي تستريح في داخلي مغلفة ببطانة المعنى والفكر كي تخرج إلى القارىء بكامل أناقتها وفضاءاتها الشاسعة.
أما الحداثة،فهي خلخلة السائد في الراهن الشعري العربي،من خلال الاكتشافات اللغوية وبناء العلاقات بين المفردات وصياغتها بقوالب شعرية جديدة بشكل جمالي آخاذ،وهذا بالطبع لا يعني أن نتخذ من الحداثة الغموض المنغلق،بهذا الشكل أو هذا المعنى افهم الحداثة،وكذلك أن لا نكون منغلقين في قوالب جاهزة متعارف عليها سابقا في النص الشعري..
علينا أن نفهم ماضينا واصالتنا بلغة حداثية تواكب التطور،لغة عصرية فيها الكثير من المغامرة الجمالية.
-ما يفتأ العديد يقول أنّ الشّعر لغة ما عادت صالحة لهذا الزّمن..ماذا تقولين أنت؟
* أرى أنّ الشعرَ هو الكون ذاتهُ،وهو جوهر كل الكائنات،والزّمن غير قادر على إلغاء لغة هي حاجة طبيعية لإستمرار التوازن،ولغة الكون دائماً ستبقى واضحة في إشراقها من “صباح الخير” التي نهديها للأحبّة بداية كل نهار،وستبقى واضحة في ابتسامةٍ تُطرّزُ “خاصرة الصباح”التي تتراقص أمامك..نهاية أقول : سينتهي الشعر حينَ ينتهي كلّ شيء!
- حين تنادين: ”آمال بوحرب“ أيكون في النّداء معان قويّة كتلك التي قالها الفلاسفة عن شعر هولدرلين؟
* لأنني لازلت أجهل-آمال بوحرب-لم يحدثْ أن فعلتها.ولكنني دائماً ما أقرأها بوضوحٍ على البياض،ذاهبة بها نحوَ اعترافاتٍ أعمق،كي يتسنى لي قراءتها بشكلٍ أوضح.حينَ أعرفها تماماً، وقتها سوف أفعل،وأخبرك ما إذا كانت معانٍ قويّة كائنة في ندائي عليها،أم لا،دون تشبيهٍ بأيّ آخرْ.
- كيف تنظرين إلى خريطة الشعر العربي اليوم؟ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟
* خريطة الشعر العربي ما زالت واضحة المعالم على الرغم من محاولة بعض المتشائمين طمسها،فللخارطة رموزها وتضاريسُها الإبداعية،وهناك شعراء رواد شكّلوا قمماً إبداعيَّة لهذه الخارطة لا تطالها رياح التعرية المحملة بغبار العولمة،من أمثال السياب والبياتي والفيتوري والماغوط وصلاح عبد الصبور والجواهري..وغيرهم.
- أما من قصيدة صدأت في درج مكتبك بعد أن صدأت في دواخلك؟
* سأبحثُ في الدرج،لأجدَ نصوص مال لونها إلى الأصفر المحروق،رائحتها تُسعدني،وتُعيدني إلى لحظات كتابتها،وما قبل الكتابة،لأجدَ بها جزءاً منّي،أتذكّرهُ ولكن يُصيبني الحنين إلى مشاركة الآخر بهذه الذاكرة..بهذا الشّعر.
ما هي القصيدة التي تعتزين بها،وترغبين بتقديمها هدية للقراء؟
-أحضانك
والقلب سماء تمطر
أمطرني بعشقك كي أغرق
مولاي ما عندي زورق
من منك اليوم ينجيني
والبحر انت والمنفى
والعشق بقلبي لا يخفى
أن أغرق فيك لا عجب
كللني اليوم في الغرق
وارسمني عروسا على الورق
مولاي أنت وسلطاني
وكتاب الشعر بوجداني
وجمالي وألوان الشفق
لا عجب فيك أن أغرق
-أخيراً:
*أردتُ أن أشكرك على هذهِ المقابلة،التي جعلتني متوترة ومغتبطة وممتنّة أيضاً.
ثمّةَ فرحٌ قاسٍ انتابني وأنا أقرأ أسئلةً،هي بمثابةِ إجاباتٍ أيضاً،نسبةً إلى أسئلةٍ أخرى،إنّها تصلُحُ أن تكون ورطة من نوعٍ جميل،ولا نملك إزاءها القدرة على التّراجع،وربّما لإقدامي هذا،فقد جعلتني في هذا الحوار أبدو (مقاوِمةً) بمعنًى ما..!
وأظنّني اجترحت إجابات لا تلتزم بالأسئلة،فهي تنطلقُ منها،لكنها تجيبُ عن غيرها،وهذه هي مهمّةُ الإلهام.
-دمت لامعَة الحرف..وذائقة لمعانيه العميقة
حاورها : محمد المحسن
*ملحوظة : عندما تواصلتُ مع الشاعرة التونسية الفذة ""د-آمال بوحرب" لكي أُجري معها هذا الحوار،كانت الشمس قد أَذِنَت بالأُفول،عندما أشرقت الشمس كانت الإجابات قد أُنْجِزَت.فما بين شمس غاربة في الخارج الفاني،وشمس مُشرقة في الداخل الأبدي،الحضور الأقوى هو للجمال والنور،وإِنْ قُورِبَ معرفياً.
هنا ليس ثمة مسبار تراتبي لمراقبة الزمن،فالزمن زمن دائري بلغة أهل العرفان،والإشكلات التي تستوجبها مقولات كهذه لا يمكن أن يُجاب عنها إلا شِعرًا.
**د.آمال بوحـــــرب كاتبة وشاعرة تونسية الجنسية مقيمة بدولة الإمارات العربية المتحدة.تكتب بحبر الروح..ودم القصيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق