اشراقات الصورة الشعرية..وتمظهرات المعنى في قصيدة الشاعرة التونسية القديرة نعيمة مناعي..زخات سلام
إنّ من أهمّ المقوّمات التي تنبني عليها القصيدة الحديثة الصّورة الشّعريّة،فالشّاعر صار يجريها وفق تقنيات حديثة متنوّعة،بل يوليها اهتماما متزايدا يتماشى مع ما يريد التّعبير عنه وما يفكّر فيه من قضايا صارتْ في مدار اهتماماته،لذلك سعى إلى طرحها متوسّلا الصّورة الشّعريّة التي بفضلها يتشكّل المعنى داخل النصّ الشّعريّ.فالشّعر كغيره من الفنون يسعى الشاعر من خلاله إلى تصوير مشاعره الخاصّة والتّعبير عن رؤاه وأفكاره تجاه العالم الذي سيعيد تشكيله فنيّا مستندا إلى الإمكانات التي تمنحها له الصّورة الشّعريّة.
وعليْه فالصّورة الشّعريّة لا تعدو أن تكون الشّكل الفنّيّ الذي تبرزه الكلمات والجمل حين تنتظم في سياق فنيّ خاص.فالصّورة الشّعريّة هيّ التّربة الخصبة التي تنمو فيها تجربة الشّاعر في علاقته بذاته وبالعالم،وعلى هذا الأساس تكتسب قيمتها الفنيّة في بناء النص الشعري وتأسيس المعنى.
وإذن..؟
أقول إذا : لم يعد مقبولا ان نقول عن قصيدة أنها نفثة مصدور أو خفقة قلب ولا شيء غير هذا خاصة إذا كنت أمام نص للشاعرة التونسية القديرة نعيمة مناعي والتي تصل-في بعض قصائدها (وهذا الرأي يخصني)-إلى كنه الأشياء وحقائقها المجردة أو قل تصل إلى العلاقة بين الأشياء وقوانينها الجامعة وهذا غير كائن لغير الشعراء الكبار كجيتة وأليوت وطاغور وغيرهم من الكبار الذين يحلقون في فلك الفن الأعلى ..
في قصائدها بوح ناي وأنين وتر،يصدران نغماً واحداً يحمل نبضاً شعورياً شديد التشابه،يفيض من الجوانح نرجساً..
هي شاعرة من طراز خاص أسهمت في رفد الساحة الشعرية التونسية بإنتاجها الأدبي المميز، رائعة بكل ما تعنيه الكلمة،تجعل نبضات قلبك تخفق خاصة في قصائدها الوجدانية،قديرة ومتمكنة وهى تعزف تابلوهات فنية راقية في مشاهدها الفنية،بكل تميز وألق،وبنكهة خاصة تلامس آمالنا وآلامنا .
من خلال قراءة قصائد الشاعرة التونسية السامقة نعيمة مناعي،يُلاحَظُ أنها تؤمن أن الشاعر روح الأمة،وأن مهمته في أرضه ووطنه،أن يزرع بين أحشائها بذور الأمل،حتى إذا سمت داخله وصارت ظلالها وارفة،أفاض بها على المجتمع،وهذا لا يتوفر إلا بالنص الجيد،الذي يتصف بتقنيات الشعر الرفيعة ، فالشاعرة تعمل على تطوير آليات نصوصها،ماهرة في اقتناص الفكرة والصورة،وتعدد طرق التعبير والتخيل،التي تميز الشاعر المتفوق عن غيره .
نتابع معا:
زخات سلام
لا وقت لديك
مري في سلام
تأبطي جحافل ، مسالك اليوم اليسيرة
إمرأة تحمل خلجات الحياة الثقيلة
بين فلذةصدرها وتبسم
لها ألف أمنية وبضع قواف
تستند إلى وجع يرفل
في أعراسها
كم هي فنانة في أحزانها...!
لا مجالس تضج بعبير موتها
ركن قصي يؤرخ لثورة ،الهزيمة
العابقة بنصرها
وكلمات قوية الحرف يرتجف فيها المعنى
كعبور قلب كسير على منصات التتويج
يرقب حمامة تطوف على بعد مسافة
من صخب البحر
و بجناح يشتهي الإسترخاء
في يم البرق
يتغنى ب شاعر من هناك ينظم سيل المعاني
يسلب لبه عباب المشهد
فيرخي للوميض هطله
على سفح الروح
لا حواجز تصد المعبر
أغنية من رصاص الروح
تطلق عنان الصمت
وطن الأغنيات الجرداء
تنزف لها المآقي
وعليها يمر صفير الروح
مدغدغا :
هيا عودي
أثثي منارات السكينة
لتسترخي
تكللي بعطور الياسمين
المتدفقة من لجج السكب
وخطيها على لوح يأبى
أن يندثر
ويبتسم في عمق القوافي استهزاء :
متى نرسم للنبض ملامحا جلية الهوية !
يميل بها العزف وينبري شحرورا ...
على أنغام كسورنا فنتبعثر
ونستفيق لبرهة ،نرمم بعضنا
وبعضنا يقسم أن يرجع
(بقلم نعيمة مناعي)
من خلال مقاربتنا لهذه القصيدة الفاخرة (زخات سلام) للشاعرة التونسية المتميزة نعيمة مناعي،وقفنا على أهميّة الصّورة الشّعريّة التي توسّلت بها الشاعرة لبناء عالمها والتّعبير عن مشاعرها ورؤاها،فهي بذالك تقرّ بوعيها بدورها الفعّال في البناء الشّعريّ لنصّها بل بأنّها هي الأساس في شعرها الحديث (أزعم أني اطلعت على معظم قصائدها المدهشة) وهذا ما انعكس على المعنى في مرحلة أولى والدّلالة في مرحلة ثانية.فتشكّل المعنى واستقصاء الدّلالة جاء أساسا على تكسير القوالب الشكليّة الجاهزة للنصّ والبحث على إعادة البناء عبر الانزياح الذي اعتمدته الشاعرة،ممّا يحفظ للشعر شعريّته.يقول جون كوهن في كتابه”بنية اللّغة الشّعريّة”: ولكيْ يكون الشعر شعرا ينبغي أن يكون مفهوما من طرف ذلك الذي يوجّه إليه،إنّ الشّعرية عملية ذات وجهين متعايشين متزامنين: الانزياح ونفيه،تكسير البنية وإعادة التّبنين ولكي تحقّق القصيدة شعريّتها ينبغي أن تكون دلالتها مفقودة أوّلا،ثمّ يتمّ العثور عليها وذلك كلّه في وعي القارئ.”
على سبيل الخاتمة :
دوما كان الشعر يشدني بقوة منذ الطفولة ويجعلني أحلق في الكلمات وما وراء الكلمات،وكلما كان النص أمامي يحفل بالرمزية والفكرة والصور والجرس الموسيقي واللوحات،كلما شدني أكثر،فالجمال بالشعر لوحات مرسومة بالكلمات تلونها روح الشاعر وما يريد قوله بتصوير لحكاية أو حدث،وألوانها مشاعر وأحاسيس وأفقها وفضائها الجمال، ومن هذه النصوص التي شدتني بقوة-كما أسلفت-نص الشاعرة التونسية السامقة نعيمة مناعي (زخات سلام)
وهذه الشاعرة الشابة اقرأ لها باستمرار وإن لم تسنح الظروف أن نلتقي مواجهة.
-نعيمة مناعي-متألقة بقوة اللغة وتكثيف العبارات محلقة في جمالية الفكرة،ترسم بالحروف لوحات حملت الكثير من الجماليات برمزية غير مغرقة،ولكنها تحتاج قراءة متأنية ودقيقة، مستخدمة-أحيانا-التشبيه لتمنح اللوحات جمالية أخرى.
-وبدون مجاملة ولا محاباة-أختم :
هي شاعرة،تحمل مصباح ديوجين تحت الشمس وتبحث عن اللامرئي وتنشر جناحيها كطائر يشدو للإفصاح والتعبير..
قبعتي..يا-نعيمة-
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق