المدينة الصامتة
بين مشاهد الظلام و في ضل شعاع نور ضوء السيارة وهي تشق السكون المخيف المطبق للمدينة الصامتة بمناسبة تشييع والدة زميلة لي رحمها الله في سابقة أولى أن أحضر عملية دفن راحل على وقع تعاليم الليل.
مشهد يحاكي تصورات قاع الذات التي لطالما تغنت بمشاهد البريق و زخاريف الحياة وطول الأمل متناسية الحقيقة الخالدة الكامنة بين المخطوطات العميقة بعدما تعمدت الجوارح تجاهل نداءاتها إلى حين تلقي رسالة قوية اوصدمة بالغة او بكل بساطة شعاع إستفاقة وأريج إيمان.
فبين الصمت الجارف تهب عليك نسائم بيانات الراحلين بحروف الأضرحة و الأحجار وبفصاحة المعلقات و صدق التوجيه بكرم حاتمي وكأنك تصغي لتفاصيل رونق كلماتها المصطفة القادمة من وراء الحياة بلغة الأشباح التي ترسم بصدق فرضية المساواة وترجح أخيرا منطق الحكمة وآلية الخضوع لقوانين الجبار. فهنا يرقد الغني الفاحش و الفقير البائس وبينهما الصغير الحالم والرضيع الجديد والطاعن الهرم والعروسة الممردة فهنا الكل يمتهن السبات الأبدي و الكل يرجو رحمة المولى والكل أفضى الى ما قدم والكل سجل إسمه بنقش عميق في سجلات النسيان.
فإتحاد الظلام والسواد والصمت المطبق يضع المرء على ضفاف الرواية الأصلية للحياة و يزن بالعدل حقيقة جناح البعوضة التي تقاتل لأجلها الأحباب والخلان وأولو الرحم. هنا كل لحظة في حد ذاتها ديوان وكل خطوة مجلد صادق بين حروفه رسالة نيرة تخترق الحقب السحيقة وهي تقف بشموخ متأكدة من خلودها إلى اليوم الآخر من رحلة الدنيا.
هنا ألوان حروف المنادي من معقل الصمت لا تفك شفرات معانيها سوى النفوس التي لامست الحقيقة المرة المتوشحة غطاء البهجة و التي لطالما إكتنزت في جرابها كل المكاره وإن تراقصت الجحافل على وقع أنوارها وغرت بجمالها المارة والقوافل عندما ركنوا للتلذذ بعذب قوافي تعابيرها وسموم رسائلها وكذب توجيهاتها. فالمدينة الصامتة تجسيد واقعي للحياة ونقش صريح لأسمى مراتب الحقيقة ونبراس وهاج ينير بصدق دروب الباحث على باب الختام لتتم عملية الدخول إحقاقا للحق وتوطيدا لعلاقة البداية بالنهاية و عبورا سلسا لعالم الخلود وأولى خطوات اليوم الموعود بعد رحلة تستنزف كل لحظة وكل يوم ومع كل نفس الغالي والنفيس وتنادي من عمق جوهرها الساطع... أيها المار إتق الله في الجوارح .... إتق الله في حدوده... إتق الله في كل خطواتك ...إتق الله في خلواتك و صلواتك حتى مماتك وتجهز لرحلة اللاعودة مغتنما فرصة النفس المتأرجح بين الشهيق و الزفير لحشر الزاد و إعداد العدة لمهمة تخطي العقبة الكؤود .
رحم الله الراحلين و غفر للجميع و أذاقنا و إياهم بهاء الغفران و رحيق السماح وضياء الرضا و أغدق على سكان المدينة الصامتة بجميل التجاوز و العفو فموطن الظلام هنا وموطن الوحدة هنا و موطن الحساب هنا و موطن الصمت المطبق....هنا أيضا......
محمد بن سنوسي
من سيدي بلعباس ... الجزائر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق