طائر الأفق
إلى المبدع سمير مجيد البيّاتي رسّاما و شاعرا وناقدا وجليسا
" أنا لست منّي إن أتيت و لم أصل / أنا لست منّي إن نطقت ولم أقل / أنا من تقول له الحروف الغامضات : / اكتب تكن ! / واقرأ تجد ! / وإذا أردت القول فافعل، يتّحد / ضدّاك في المعنى ... / وباطنك الشّفيف هو القصيد " محمود درويش / جداريّة طبعة 2009 / صفحة 25
الاحتفاء بالمبدع سمير مجيد البيّاتي احتفاءٌ بالرّسم و الشّعر معا1، حيث العلاقة بينهما تقوم وطيدة و حميميّة على مرّ العصور وقد سبق للشّاعر الإغريقيّ " سيمونيدس "( 556 – 468 ق.م ) أن أشار إلى ذلك في قولته المأثورة " الرّسم شعر صامت و الشّعر رسم ناطق"2 والعلاقة بينهما تقوم كذلك بالضّبط عند ضيفنا المحتفَى به المحلِّق عاليا في ملكوت الإبداع رسما وشعرا، إذ يقول في نصٍّ من ألوانه البلّوريّة: " أريد أن أكتب قصيدة؟ (1) / تبدأ بصورة / وتنتهي بلون. "3 سمير مجيد البيّاتي المرهف الحسّ و المتشبّع بالفنّ الخالد4 منذ ما قبل ملحمة " جلجامش " مرورا بالإبداعات المتنوّعة في بلاد الرّافدين حتّى اللّحظة العراقيّة الرّاهنة، طائر ذو جناحين ساحرين ( جناح للرّسم و جناح للشّعر )، جناحان يشقّ بهما المدى بابتسامته الآسرة وشغفه الطّفوليّ الغامر. من بلاد الرّافدين إلى اليمن وصولا إلى تونس يظلّ الطّائر محلّقا في الأعالي مطلاّ على العالم ممعنا النّظر في الأشياء ممسكا بعناية فائقة بالفرشاة والقلم " لوحة / أرسمها بوريد شرياني / وألوّنها بألوان أحزاني / أرسمها و ترسمني / تفكّر كيف تفضحني؟ ! / أفكّر بلمّ جراحي / ولا تنساني / هي منّي و أنا منها / ولدنا وكلّ منّا يكمّل الثّاني "5. قد تختلف المحامل و الأدوات والألوان ولكن الأثر يظلّ رائعا هنا و هناك، الأثر سواء كان لوحة تشكيليّة أو نصّا شعريّا أو مقالة نقديّة يظلّ هو هو من حيث القدرة على التّأثير في المتلقّي، ويظلّ مؤثّرا في الأزمنة وإن اختلفت التّجارب و الفترات كما يظلّ مؤثّرا في الأمكنة وإن اختلفت الأذواق و المحطّات. في مجموعته الأنيقة و المتفرّدة " ألوان بلّوريّة "6 ذات البؤرة / النّافذة الممعنة في لوحة " الموناليزا " يختلط الرّسم بالكتابة وتختلط الكتابة بالرّسم حتّى لكأنّ المكتوب على البياض ضرب من التّشكيل وكأنّ لوحة " دافنشي " نصّ ناطق.
في " ألوان بلّوريّة " يحلّق سمير مجيد البيّاتي في سماء الرّوعة مقتفيا أثر " جلجامش " في بحثه عن نبتة الخلود، متوحّدا في لحظة نادرة بروح الفنّ في ملكوت الوجود7 ... كيف لا وهو يمخر بنا من خلال البؤرة المحفورة بإتقان و تدبّر عباب الذّاكرة، ذاكرة الرّسّام المستلهم للتّجارب السّابقة و المتذوّق لها والمُصغي للإيقاعات الخالدة يستحضرها بشغف بواسطة القلم وبياض الورقة وما أدراك ما القلم وما الورقة، بالشّعر المستأنس بالنّثر وبالنّثر المتدفّق شعرا فيّاضا يغوص بنا الفتى الدّجلاويّ في متاه البؤرة السّاحرة حيث تتراءى لنا من وراء الأضواء البلّوريّة لوحة " دافنشي " تتمنّع فارضة على من يطلب ودّها التّرحال العجيب على ضفاف الفوّهة الدّوّارة الّتي يتعانق فيها الانجذاب إلى القاع مع الانفلات منه في حركة هي أشبه ما يكون بالطّقس الذي ينغمس في أسره دراويش الصّوفيّة خلال الشّطح اللّولبيّ الملفت للإعجاب. يقول الشّاعر: " المتاهة / ندخل فيها / و تدخل فينا / تدور و تدور / شئنا أم أبينا / كأنّنا / سكارى "8. للمتاهة في النّصّ البيّاتيّ وقع المرايا " المرايا / كلّما نظرت إليها / أشمئزّ / من الذي أراه أمامي / هشّمتها بوجهي / سالت الدّماء / من وجه الزّجاج المحطّم / تفتت إلى قطع صغيرة .. صغيرة / وعندما رآها / نظرت إليه بوجهه القبيح / فبدأ يلتهمها / ولا يبقي أثرا يكون شاهدا عليه / - المرآة – هي الحقيقة الأليمة / لنفسه."09 وللمتاهة في ذات النّصّ وقع الأحلام "الأحلام / تطير كالفراشات / و تحترق / قبل أن تصل "10 للمرايا سحرها وفتنتها وتجلّيّاتها تكون محدّبة أحيانا ترى الأشياء أكبر من أحجامها الحقيقيّة ومقعّرة أحيانا أخرى ترى العالم يتشظّى و يتلاشى، وللأحلام سحرها هي الأخرى و تجلّيّاتها وأبعادها اللّامتناهية في جميع المستويات و لها وهجها الآسر وبريقها الخلاّب ومخيالها العجائبيّ الفاتن. أمام المرايا وفي حضرة الأحلام يتجلّى الإبداع البيّاتيّ خير تجلّ مرتحلا في فضاءات الخلق المترامية الآفاق ...
في ألوانه البلّوريّة العجيبة يستحضر سمير مجيد البيّاتي" عباقرة " الفنّ الحديث " ليوناردو دا فنشي " و " فنسنت فان جوخ " و" بابلو بيكاسو " و " سلفادور دالي " و " بول أليوار " وآخرون ... ويستحضر عباقرة الإغريق " سقراط " و " إفلاطون " ويستحضر إلى جانبهما " صدّام " ويَسِمُهُ مثلهما بالحكمة، " ... ألوان تخرج من الجسد و الرّوح / وعصارة الزّمن / اكتبوا قصائد / دون كلمات و لا نقاط ولا معنى / اصرخوا في صالات الموسيقى / واعزفوا موسيقى المدافع و صلال السّيوف / وهي الأعذب و الأجمل / اشنقوا عباقرة الحكمة / سقراط و إفلاطون و صدّام "11 فهل أنّ الرّافديّ المهاجر من ضفاف الماء شرقا إلى أقاصي الغرب، الضّفاف الأخرى لروافد آخرى يهزّه الحنين إلى الزّمن العراقيّ قبل الاجتياح الرّهيب والتّخريب المخيف؟ 12 ... وهل أنّه يرى في " طاغية ذلك الزّمن " حسب تصنيف الوافدين على ظهور الدّبابات الأمريكيّة رمزا للحكمة يرتقي إلى مستوى عباقرة الإغريق؟، الأمر يستدعي جرأة وتحدّ و معارضة لآراء تزعم أنّها تمتلك الحقيقة المطلقة ... ليس الأمر هيّنا ولكنّ قلم الشّاعر يرسم ما يريد مثلما تقول ريشة الرّسّام ما تشاء ... في ألوانه البلّوريّة يغرق بنا الشّاعر الرّسّام وهو يحتفي بضيوفه المبجَّلين من الفنّانين العظام في ألوان مليئة بالسّواد، حيث العتمة تلفّ العتمة وحيث يُخيّم حزن عميق، حزن يكاد يأسر كلّ المشاعر و الأحاسيس " بابلو بيكاسو / دموع / ونحيب / وبكاء حارّ / يفطّر القلب / ما كلّ هذا الحزن / يا سيّد بابلو بيكاسو؟ الوضع الذي نحن فيه / دام و مؤلم و حزين / تقصف قريتنا الجميلة / ( جرنيكا ) / بالقذائف و الطّائرات / وتباد في بضع ثوان / كيف تريد أن / ترسم ريشتي / السّيّدة ( دورا مار ) التي / أثّرت فيه كثيرا / لقد سافرت بي / إلى قريتها / لقد قتل أهلها / وأهلنا / و أجهشت بالبكاء "13 ، وكأنّ سمير البيّاتي يستلهم فيما يستلهم في ألوانه البلّوريّة مأساة بغداد وما تركته من أثر عميق في أهل العراق من مختلف الأطياف و الشّيع و الأحزاب وخاصّة من المبدعين ... نلمس ذلك ونحن ننزل في حركة دائريّة إلى أسفل نتصفّح النّصوص محدّقين في عينيْ " الموناليزا " كما نلمسه ونحن نصعد إلى أعلى مبتعدين عن الأضواء المتدفّقة من حواليْ وجهها، في الإتّجاهين المتعارضين و المتكاملين وفي إيقاع بيّاتيّ خاصّ به، يرتحل بنا الفتى البابليّ من ملكوت الإطمئنان الزّائف إلى فضاءات الحيرة و التّسآل الدّائم و القلق الأبديّ، هناك حيث يبتدئ الخلق من جديد، سواد مخيف تنبعث منه أدخنة داكنة تشهد على الموت المتربّص بالعالم من كلّ الأنحاء، وحزن كئيب يعصف بالأفئدة و القلوب، و توجّعٌ مضنٍ ينخر الارواح والتّاريخ. استحضار عجائبيّ للخراب الممنهج الذي تربّص بقرية " جرنيكا " في النّصّ بعنوان: "بيكاسو " المشار أليه أعلاه و تربّص كذلك ببغداد في النّصّ بعنوان " مفاجأة " إذ يقول الشّاعر: " رأيت اليوم / سلفادور دالي يتجوّل / في شوارع بغداد / ومعه حرّاسه الخاصّون / واقفا ممسكا عصاة / ينظر إلى الجموع باستهزاء / وحوله كلابه المدرّبة / لا أحد يكلّمه أو ينظر إليه / لأنّه يقتله / سلفادور دالي المفكّر / يبصق على وجوه المارّة / بألوانه المتناقظة / يصف الجموع / ويرميهم من أعلى المباني / ليسقطوا واحدا واحدا ... "14
البدء عند سمير البيّاتي ضرب من الخلق العجيب خلق بالألوان وخلق بالأقلام و خلق بالأحاسيس، الحزن العميق الضّارب في المأساة والمستلهم لها والمتمثّل للملهاة والمستأنس بها تعبير صارخ عن تعالق سرياليّ بين التّراجيديا و الكوميديا، مأساة كوميديّة و ملهاة تراجيديّة تحتفيان بالمفارقة الكبرى التي تظهر على ملامح " الكوميديّ " الذي يبدو أحيانا على الرّكح في غاية الابتهاج وهو يُسلّي المتفرّجين بينما هو في الحقيقة يُخفي حزنا عميقا لا يظهر من وراء القناع. " قالوا لي / أنت الفنّان المبدع / أنت الرّسّام المتألّق / أنت ابن الجنائن المعلّقة، وابن الرّافدين / قلت لهم: / أنا المعاناة و الألم / وأنا الجرح النّازف / وأنا من ضحايا المغول و التّتار / طوينا همومنا مع الرّيح... "15. في لحظة الخلق البيّاتيّة عند شاعرنا و رسّامنا تنصهر الألوان في أبيض لا يظهر على البياض إلاّ متجاورا مع أسود عاتم يتبادلان الإثارة على قارعة الذّاكرة وفي أقاصي الوجدان ... في ألوانه البلّوريّة يحتفي سمير مجيد البيّاتي بالفنون خير احتفاء ... ويُقيم كرنفالا مهيبا للفنّ التّشكيليّ و للموسيقى و للرّقص وللحياة بأدوات الشّعر. يُعرّف بضيوفه المحتفَى بهم وبآثارهم بمفردات أكاديميّة دقيقة ويتفاعل مع هذه الآثار بأسلوب فنّيّ راق حيث تتقاطع الصّور الفنَيَة و تتداخل و تتشابك حتّى لكأنّنا إزاء صورة كلّيّة هي صورة الشّلاّل الكونيّ الذي تتدفّق من معينه الرّموز والأساطير و الانزياحات و المجازات و الاستعارات والكنايات ... وينهمر من منبعه الكلم ... في لوحته بعنوان " هل " يلمع قبس من ذلك المعين حين يقول الشّاعر : " هل؟ / هل رأيت لوحة تتكلّم؟ / هل رأيت كتاب شعر يبكي؟ / هل رأيت آلة موسيقيّة تنتحر؟ / نعم في الفنّ / إنّها / مثل البشر تأكل و تشرب / و ترقص / وتمارس الحبّ/ وتموت."16 ... الفنّ عند سمير مجيد البيّاتي إحياء للعالم و أنسنة للأشياء ونفخ من الرّوح في الوجود. وحلم كبير وغامر. رغم الأحزان و المآسي والأهوال يحلم الشّاعر و الرّسّام والنّاقد بل يُمعن في الحلم حيث يقول في اللّوحة الأخيرة من ألوانه البلّوريّة: " أحلم بمدينة / أسطورة / أحلم بمدينة فاضلة / تلبس ثيابا مزركشة ومطرّزة /الذّوق و الفنّ يكسوانها في كلّ شيء / أحلم بمدينة فيها الحبّ و الجمال؟ ! / بيوتها ملوّنة مزخرفة / عماراتها ناطحات سحاب / تعانق السّماء / والنّاس تمتطي الغيمات تتنقّل / و ... / دعونا نحلم بجنّة أسطوريّة على الأرض. "17 ويظلّ ضيفنا المبجّل رغم تلك الحقائق المرّة و الموجعة طائرا في الأفق يحلم ويحلم و يحلم محلّقا بجناحيه الفاتنين يمخر عباب المدى.
المراجع و الهوامش
1 / تمّ الاحتفاء بالرّسّام و الشّاعر العراقيّ التّونسيّ سمير مجيد البيّاتي بنادي الشّعر باتّحاد الكتّاب التّونسيّين يوم الجمعة 07 / 12 / 2018 قدّمه للضّيوف النّاقد جلال المخّ و نشّط الأمسية رئيس النّادي الأستاذ الشّاعر عبد العزيز الحاجّي.
2 / صلاح الدّين الحمادي، الصّورة النّمطيّة في نسيب الهذليّين، دار الاتّحاد للنّشر و التّوزيع، ص 70
3 / ألوان بلّوريّة ص 102
4 / اشتهرت بلاد الرّافدين بالفنون طوال تاريخها، منذ ما قبل الحضارة السّومريّة و إلى الآن ...
5 / ألوان بلّوريّة ص 91
6 / ألوان بلّوريّة / نصوص، الطّبعة الأولى سنة 2017، مطبعة فنّ و ألوان – تونس. تصميم الكتاب 21 / 21 مربّع الغلاف، مكعّب الحجم، تتوسّطه بؤرة في شكل مربّع تخترق كلّ الصّفحات وتقفل من الأسفل بمربّع مقايس للمربّعات الأخرى مرسوم عليه وجه الموناليزا لدافنشي، والنّصوص / اللّوحات مكتوبة على ضفاف ما تبقّى من كلّ صفحة.
7 / ملحمة " جلجامش " الرّافديّة التي تروي حكاية الملك " جلجامش " الذي خاض مغامرات عدّة باحثا عن نبتة الخلود، ولئن لم يعثر البطل الأسطوريّ على مبتغاه فإنّ الفنّ العظيم / الملحمة خلّده إلى الأبد.
8 / ألوان بلّوريّة ص 134
09 / المصدر نفسه، المرايا ص 120
10 / المصدر نفسه، الأحلام ص 135
11 / المصدر نفسه، مفاجأة ص ص 70 – 83
12 / العدوان على العراق 1991 و غزو العراق واحتلال بغداد 2003 / استهداف البشر و المدن والحضارات المتعاقبة وتخريب آثارها.
13/ ألوان بلّوريّة، دموع ص ص ص 46 – 48
14 / المصدر نفسه، مفاجأة ص 70
15 / المصدر نفسه، قالوا لي ص 128
16 / المصدر نفسه، هل؟ ص 146
17 / المصدر نفسه، أحلم بمدينة ص ص 186 – 194
بوراوي بعرون ( شاعر و ناقد ) تونس، جانفي 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق