جبار عبود ال مهودر
الجزء التاسع وقبل الاخير من قراءة "القضبان لا تصنع سجنا .
ب. جدليٌة العلاقة بين الزمان والإنسان في " السجن الذي لا تصنعه القضبان"
يتصدّر الزمن الدٌراسات الفلسفيّة والفيزيائيٌة والأدبية خاصة على مستوى علاقته بالوجود الانسانيّ بما أنه الحاضنة المتغيرة المتجددة التي يتحرك ضمنها البشر وفق محطات ثابتة في المنظومة الكونية والتي تخرج في الغالب عن الإرادة الإنسانية المحدودة .
وفي "القضبان لا تصنع سجنا" استطاع الكاتب تناول الزمن المرتبط بالشخصيات المحورية والتي يستحضرها عبر "ذاكرة أخرج منها نفسه" منذ البداية تجنبا لجلد الذات وبحثا عن درجة من الحياد فإذا به يغرق في اوجاعها وآلامها التي خزٌنتها الذاكرة الفردية والجماعية في غفلة منه ومنهم لذا فقد ورد السّرد في شكل احداث وثيقة الصلة بالشخوص، مهما كانت درجة فاعليتها بالحضور أو بالغياب.
الزمن الذي تحركت فيه الشخوص كفاعلة أو مفعول بها كمساعدة أو معرقلة كايجابية أو سلبية،هو زمن بقيمة تسجيلية تقنع المتلقي بأنه إزاء حقيقة ثابتة غالبا ما تكون صادمة موجعة فهي موثّقة بالزمان ومعه المكان بل أن الكاتب وبتقنية المونولوج استطاع أن يكشف الباطن بأحداث متتالية في الزمن المنقضي ولم يكتف بالظاهر لغاية التأثير في المتلقي لانه باثّ شخصية محورية أساسية "محمود"والذي هو "جبار" الذي تبرأ من صيغة المبالغة المتوافقة مع "صدّام"
"محمود "حيٌ بتصنيف وجودي لكنه وككائن فعلي توقفت حياته بين القضبان ليلتقي منذ اللحظات الأولى " زمن الحرية"بالاب الذي مات لكنه حيّ"عند ربه يرزق" هو شهيد في جنات النعيم .
"الشخوص" التي ورد جلها بالاسم الثلاثي واللقب العائلي وان طواها الزمن المطلق فزمن الرواية خلدها وجعلها تحيا وتذكر حاضرا ومستقبلا .هذه الرغبة في التدوين والتخليد هي التي حدت بالكاتب ومن منطلق واقعي أن يكون القص متشظيا متداخلا تحدده الوضعيات والتي قد تستوجب قفزة ورائية بين رفوف الذاكرة التي تتراكم فيها احداث ومشاعر وأحاسيس مازالت تتأذٌى من مجرد التذكر رغم أنه وكسبا للمصداقية التسجيلية التاريخية فقد عمد إلى ترتيب الأحداث وفق تدرج زمني خطي الا نه وبتناول المقتطفات والحقائق التي بها اثث الرواية كسّر الزمن استرجاعا أو استباقا بتفاعل يعكس موقفه مما يصف ويسرد .
بدأ الزمن بالحد الفاصل بين الماضي والمستقبل اي بالحاضر وهو الفيصل بين زمن السجن والعذاب والتعذيب وزمن الحرية المضرجة بمآسي ستنطلق في نقطة زمنية فارقة لقاء محمود بقبر والده الذي لم يودعه ولم يره منذ سنين .
زمن منه ستتقارع أزمنة وتتعارك في خضمّ ظلميّ تجبّري. مأساوي . نقطة البداية هي في الأصل نقطة النهاية او هي بداية الغاية الزمنية وانتهاؤها خاصة وأن المتلقي ليس خالي الذهن من المأساة وعمقها وبكم معرفي حول حقبة طويلة من حكم استبدادي بدأت فضائحه تعلن يوم سقط الصنم .زمن دائري عدميٌ فلسفي. قد يؤسٌس ويذكّر بعدمية الوجود المرتبط اساسا بالنهاية الحتمية لكل مخلوق بل والكون كله مادام البطل يؤمن بالبعث ويوم الحشر وخير حجة على هذه العبثية الحتمية نهاية الحاكم الذي حكم حكم من لا يؤمن بالنهاية الحتمية الا للمظلومين .
البطل الحقيقي الذي تملص من ذاكرته المثقلة بالهموم والاوجاع .أخرج نفسه ليقف قرب قبر ابيه "يحصي بقايا أيامه وماتبقى له..."" "ليجد أيامه التي تركها في مقبرة وادي النجف.." لأن الزمن المتبقي "الايام"هي حلقات من سلسلة زمنية ضاربة في متاهات ماض باسى وأوجاع يعجز الزمن اللاحق على ترميم جروحها وطمس سماتها لأن الزمن مقيد ومنقول وفق تحركات الشخص وتفاعله مع ما حوله وقد تعدى الفرد والموطن والوطن إلى "الأمة" كلها والتي "اتفقوا على ألا يتفقوا "حتى في تحديد يوم رمضان أو العيد يقول في ص ٢٣٤""سأل أباه يوما : لم الاختلاف في تحديد يوم العيد كل سنة؟ " هو الهم الجماعي الذي وان بدا مجرد اختلاف فهو في الحقيقة خلاف جذري بين حكام يربطون الزمن والتواريخ بأهداف انتقامية سياسية موبوءة.
فعد الايام والتقليل منها يعكس ماخلفته القضبان من دمار نفسي لبطل بات لا يثق في المستقبل..
صورة باستعارة مشهدية مؤثرة تكشف كمّ الأسى المتخلّد بالذّمّة..ليكون التٌأبين والرّثاء والوجع والأسى بين من اختفى ومن يبحث عن اختفاء بين احضان من فقد .
الزمن الذي ارتبط بأحداث موثٌقة حقيقية يجعل عمليٌة الاسترجاع والتٌدقيق والتحرٌي مكلفة مرهقة لأن الكاتب وان حاول الإطلالة من زاوية السارد الموثق لتاريخ موجع مرعب فهو لم يتخلص من كم وجعي، كل ما حوله يذكره به خاصة الشخوص الذين لازموا الراوي بالحضور فيما قبل وما بعد ""أمٌه واخته مريم وهدى". هذه الشخوص وغيرها ممن كانوا على صلة بالسارد مباشرة أو غير مباشرة هي في الحقيقة اختام شاهدة حبلى بتراكمات وجعية مقارنة بازمنة موثقة في الذاكرة الإنسانية .وكان الشخوص تتولى مهمة المساعدة على التذكر لمن "أخرج نفسه من ذاكرته" ليبني مرآة عاكسة عليها وثقت احداث عامة أيضا إذ يقول في ص ٨٨"خلال تصاعد وتيرة الأحداث السياسية سنة ١٩٧٩...."٣
"منذ سنة ١٩٧٧ رفضت السلطة الاعتراف بهم .خيروهم بين العربية والكردية، فمن اختار الكردية كان نصيبه هدم داره والترحيل ...ومن اختار العربية كان نصيبه التهميش ..." هذه الحقائق الموثقة بالتاريخ والحدث تصنف الرواية ضمن الادب التسجيلي في ناحية منه على الإقل محفز للذاكرة الجماعية لأن الاسترجاع مهما كانت نقطة الانطلاق أو الوصول محددة فهو في الحقيقة ذاكرة النص وفيه يتوقف السرد الاني ليستدعي الماضي بكل ماسيه وتفاصيله كركيزة عليها يقوم الحاضر الممهد للمستقبل وفي الرواية هو تقنية فنية تنطلق من التجربة الذاتية كمركز إشعاعي تراكمي تأثيري فيكون الاسترجاع داخليا خاصا بالباثّ أو خارجيٌا عندما ينقل أحداثا بشخوص أخرى يرغب الكاتب في اقحامها في مؤلفه السردي لأنها زمنيا قد ارتبطت بتجربته هو النضالية التي تصاحب بطريقة مباشرة أو غيرها الأحداث التي هي كم لا يتجزّا من ذاكرة مجتمع عانى القمع والأسى إذ يقول في صفحة ١١٢ "ظهرت الأمانة العامّة بعد سنة ١٩٦٨ وهي مديرية تابعة إلى وزارة الداخلية...." هذا التصميم والتعريف هو تخزين لما قد يتوه بين السجلات والأوراق والارشيف. والكاتب وان لم يذكر الزمن بدقة فإنه يصنفه تصنيفا واقعيا حقيقيا ليكون ركيزة عليها تبنى الأحداث فيبدأ فقراته السردية الوصفية ب "منذ ليلة القبض عليه"أو في ضحى ذلك اليوم أو "في بدء حملة الاعتقالات العشوائية..." هي نقاط انطلاق زمنية داخلية تنظم الأفكار وترتب الأحداث للمتلقي كي توضح الصورة في ذهنه وتنتظم زمنيا .
والمؤلف أراد بكم هائل من المصداقية أن يزاوج بين حاضر الشخصية وماضيها باتجاه الموت كنهاية حتمية لكم من المعاناة النفسية والبدنية لأن حصص التعذيب التي وان أبدع في وصف مدى فظاعتها تبقى اللغة عاجزة عن نقل الوجع الحقيقي والإيذاء الفعلي والذي يزيد تحديد الزمن أو المدة في تعميق الأسى وتصوير الأذى والمعاناة اذ يقول في ص وفي كل مرة ننتظر أن تكون آخر الحصص التي ستنتهي بالموت" رغم أن الموت حضر مرارا وتكرارا في نقطة زمنية محددة في ماض مشترك بين السارد والضحايا وحد بينهم الزمن المتشظي والذي وان اراد الكاتب أن يجعله قصا خطيا مرتبا فإن التراكمات الكمية النوعية العنفية هي التي تعلقت بالزمن وطوله كمؤشر ثابت دالّ على المآسي والمعاناة الجماعية أيضا .
حقب زمنية دموية متلاحقة بدءا بالحرب مع إيران ثم غزو الكويت ثم خرب الخليج....هذه الأزمنة محطات فارقة خلدتها وسائل الإعلام والمؤرخون بطرق مختلفة وفق زاوية المصلحة والانتماء والعقيدة. ووصفها السارد كجزء لا يتجزأ من حياته وحياة الآخرين.
والراوي المتكفل بتدوين تفاصيل عمن له بهم صلة فقد أوكل مهمة الاذى الفعلي للزمن نفسه والذي يدخل في تحالف مع الحاكم المتجبر فيقول في صفحة ٣١٦ لفحتهم حرارة الصيف وسموم الصحراء ففي شهر آب ١٩٨٢ اقتحم أفراد الشرطة..." وكأننا بالرلوي وهو يصف الزمان وقسوته كمساهم في أذية من تأذّوا ظلما وعدوانا بسبب معتقد قد يكون مختلفا عما يبغيه حاكم غفل عن صروف الزمان وعن قول "أبو البقاء الرمادي:
لكل شيء اذا ماتم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان .
*حبيبة المحرزي *
تونس
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق