دموع..في مآق هرمة
مشتاق إلى ذوات كثيرة وأشياء شتى..بي حنين عاصف إلى أمّي،تلك الشجرة الباسقة التي انتهت قبرا واجما،زاده البياض حيادا.. أين منّي وجه أمّي في مثل ليل كهذا..بسمتها العذبة..بسمتها الأصفى من الصفاء..عتابها لي آخر الليل حين أعود ثملا وقد لفضتني أزقة المدينة..
أين منّي حضنها الدافئ وهي تهدهدني وأنا الطفل والشاب والكهل..
لم أعرف اليتم يوم غاص أبي الرحيم إلى التراب..واليوم تشهد كائناتي وأشيائي أنّي اليتيم..كهل تجاوز الستين بثلاث عجاف..ولكنّي أحتاج أمّي بكل ما في النّفس من شجن وحيرة وغضب عاصف..أحتاجها لألعن في حضرة عينيها المفعمتين بالآسى غلمانا أكلوا من جرابي وشربوا من كأسي واستظلّوا بظلّي عند لفح الهجير..لم أبخل عليهم بشيء وعلّمتهم الرماية والغواية والشدو البهي..واليوم تحلّقوا في كل بؤرة وحضيض لينهشوا لحمي وحروف إسمي ..
آه أمّي كيف سمحت لنفسي بتسليمك إلى التراب..؟
حنيني شائك ومتشعّب مثل حزني تماما،وكياني مكتظّ بالوجوه والذوات..
لكَم أتوق إلى عناق إبنة الجيران تلك التي تركتني نورسا للعناق الوجيع..مازلت أذكر هودجها وقد مرّ بحذوي..أذكرها وهي تتهودج في غنج أمامي وقد عجز الشارع الفسيح على إحتضانها،أما عطرها فقد انتشر في خلايا جسدي وأنا الكهل الكئيب الجالس أمام عتبات الغروب العظيم..أشتاق إليها الآن ..أشتاق إلى عينيها السوداوين المفعمتين بالجمال..لقد ترنّحنا معا في حرائق الشتاء والصيف..أين مني جسدان شرهان لشاب وفتاة..أين من رأسي المتصدّعة خلوّ الذهن من كل همّ و إزدحام القلب بوجه فاتنتي البريئة من كل دم..أين منّي هودجها العظيم في شارع طارق بن زياد..
خساراتي فادحة أيّها الزمن اللعين..خساراتي مؤلمة أيتها الدنيا اللئيمة..
فقدت أبي ذات مساء دامع..ثم توارت أمّي خلف الغيوم..واختفت تلك التي آتتني من غربة الصحو،ألبستني وجعي ثم ارتحلت عبر ازدحام الصباح..ورحل إبني في زمن مفروش يالرحيل دون وداع يترك القلبً أعمى..
خساراتي فادحة أيتها المهزلة،أما أرباحي فسقط متاع..أضعت في الطريق رفاقا كثرا أسقطتهم القافلة سهوا عني..سهوا عنهم..
ما أطول طابور خساراتي وما أحلك هذا الليل الذي صار جزءا منّي.
هل أنا حي لأموت..؟وهل من فقدتهم -الأحياء والأموات-ليسوا جزءا منّي..؟!
ألم يقتطع منّي الموت أشجارا شاهقة ونفوسا عظيمة؟..فكيف لم يزرني هذا المتسربل بالعدمية إلى حد الآن..بل إلى حد هذا الحجم من الآسى الأليم..؟
ألا بد من إنقطاعي عن توريد السجائر إلى رئتيّ المذهولتين ليتمّ إعلان موتي..؟
ألا بد من تخريب جسدي عمدا بما أسكبه في جوفي من نبيذ..؟
وهل عليّ تغيير لحاف كوابيسي بكفن أكثر بياضا من العدم،لكي يصعق الأصدقاء ويرقص الأعداء ويوقنوا أنني جثّة تتدحرج على هضاب الحياة وتصطدم بالحواجز والأضداد..
ميّت أنا..ومشتاق إلى الحياة..يا أيّها الموتى بلا موت..تعبت من الحياة بلا حياة..
مشتاق إلى القصيدة..لم تزرني منذ ليال طويلة..هجرتني كما هجرتني تلك التي ظلّت-غصبا عنّي- تهجع خلف الشغاف..لا أنكر أنّها حاولتْ مرارا-بجدائلها-رتق الفتق..لكنّ الفتق تغلّب على الرتق..فتركتني أخيرا كائنا أسطوريا يسكن الرّيح،ويعوي مع ذئاب الفيافي..قمرا في بلاد ليس فيها ليال مقمرة ولا أصدقاء..
ومع ذلك مازلت أحبّها..مازلت أهذي من حنين وحمّى..
انتصف الليل ولم يأتني طيفها..ولعلّ هذا نذير شؤم..أو مؤشّر مربك يوحي بالفراق العظيم..
من تشتريني في مثل زمن كهذا مزخرف بالليل..فقلبي توقّف في الحزن كالحجر الأردوازي..والجسد غدا في غاية الإعتلال..أما الشوارع فقد أوحشتني مما بها من لحى..ولا عزاء..فقد كفّت الخمرة عن فعلها فيّ مما تداويت..واستبدّت بالقلب مملكة للمواجع..
لكني سأولم الليل نذرا و ألبس أبهى ثيابي..كما سأبقي المصابيح موقدة حد الصباح..مصالحة بين صحو الصباح وصحوي..وأبقي رياح الجنوب بوصلتي و دليلي..وأسأل عن إمرأة صاحبت الرّوح في زمن الجدب..يوم كانت المحيطات تنام بحضني..وما زال ثوبي يخضرّ من مائها..
ياله من زمان مضى بين ألف من السنوات الفتيّة..
تغيّرت مستعجلا أيها الفرح الضجري..وأصبح سطح قلبي معبرا للمواجع..
ولكن متى كان الحزن يصغي..؟!
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق