هاهو الحلم يرحل
الحرب كالجراد تأتي على الأخضر واليابس، تحصد أرواحا وتشرّد أطفالا وتكتم أنفاسا دون وجه حقّ...لذا نخشى جبروتها...فلا أمان معها ولا ضمان...جميعهم ستطالهم اليد الغاشمة والآلة الفاتكة...تولد المعاني من رحم الأزمات وتختنق العبرات وتتخبّط المشاعر في جحيم المخاوف...كيف لميارى أن تهدأ وابنتها في محنة عويصة...؟كيف لها أن تأكل وتنام والحرب تحاصر فلذة كبدها ...؟قذفتها الهواجس في منعرج خطير تزحلقت معها في حركات جنونيّة...وحيدة تنبت معها المخاوف كأشواك جارحة...ذات صباح بعيد انفتح باب البيت نطّت صبيّة جميلة بضفائر متدلّية على الكتفين إلى الخارج في ميدعة المدرسة الورديّة...لم يخطر في بال ميارى يوما أنّ تلك الصّبيّة المدلّلة قد تصير أسيرة عند الرّوس أو تستشهد على إثر بعض الغارات ...توقّفت عقارب السّاعة على هواجسها المروّعة لا تأكل، لا تستحمّ، لا تذهب إلى العيادة، تطرح السؤال دائما على نفسها:
-ما الحلّ....؟
هاهو الحلم يرحل وهي تخاف أن ترحل ابنتها الوحيدة...لقد رماها الحظّ السّيّء في طريق الحرب....كم نستطلع بشغف إلى السّلام العالمي...وكم أبكتنا عيون أطفال مشرّدة يعيشون في الخيام بعيدا عن الدّيار...وكم روّعتنا أشباح المدن على ضوء خفيف من نور الصّباح ووجوه مورّمة بالكدمات وأعقاب
القنابل تقصف أجسادا...انهارت المباني على رؤوس الأطفال والنّساء والشّيوخ فإذا بهم تحت الرّكام والغبار يختلط بالدموع والدّماء...يقتحم الجنود الدّيار شاهرين رشّاشاتهم...وبسرعة البرق يسقط الكثير من الشّباب مكتومي الأنفاس...ترتفع الأصوات تأمر من يقع بين أيديهم بالصّمت وإخفاض الرّأس يدفعونهم بقساوة ويحدّقون في وجوههم باشمئزاز يقودونهم إلى المعتقل وراء قضبان حديديّة تهين البشر...تراجعت ميارى إلى الوراء وكأنّها تسمع أنين ابنتها وكأنّها تراهم يجرّدونها من ثيابها ويلهبون ظهرها بالسّياط...
حميدة بن ساسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق