الأربعاء، 17 نوفمبر 2021

الكاهنة طريفة/دعبد الحميد ديوان/جريدة الوجدان الثقافية


 من كتابي أشهر النساء في التاريخ

الكاهنة طريفة
قبل ظهور النبي  وانتشار الإسلام في أرض العرب كانت تعج تلك الأرض بأقوام شتى ممن يدعون الكهانة والعرافة والاتصال بالجن والعلم بالغيب وكان ممن عرفوا بهذا النوع من السحر هي طريفة الكاهنة.
كانت سبأ مدينة عامرة بأهلها وبالحضارة التي أرستها بلقيس ملكة سبأ ولكن بعد موتها تفرقوا في الأمصار وتشتت شملهم.
وكان أول من خرج من اليمن هو عمرو بن عامر مزيقياء (وهو ملك اليمن وكان مزيقياء لقب له لأنه كان يلبس في كل يوم حلتين ويمزقهما مساء لأنه يأنف أن يلبسهما مرة ثانية). وكان سبب خروجه أن زوجته كانت كاهنة وتدعى طريفة الخير .وقد رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت الأرض بصاعقة فأحرقت كل ماوقعت عليه.ففزعت طريفة لذلك فزعاً شديداً وأتت الملك عمراً وهي تقول: مارأيت كاليوم أزال عني النوم ، رأيت غيماً أرعد وأبرق وزمجر وأصعق فما وقع على شي إلا أحرق. فلما رأى ماداخلها من الفزع سكن روعها وهدأ خاطرها.
ثم إن عمراً دخل حديقة له، ومعه جاريتان من جواريه ،فبلغ ذلك طريفة فخرجت إليه وخرج معها وصيف لها اسمها سنان،فلما برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجد (وهي حشرات تشبه اليربوع قريبة في شكلها من الفأرة إل أن ذنبها ورجليها أطول) منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن ،فقعدت إلى الأرض واضعة يديها على عينيها، وقالت لوصيفها إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرني،فلما ذهبت أخبرها،فانطلقت مسرعة ،فلما عارضها الخليج الذي في حديقة عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت في الطريق على ظهرها وجعلت تروم الانقلاب فلا تستطيع وتستعين بذنبها فتحثوا التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول قذفاً فلما رأتها طريفة جلست إلى الأرض فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت طريفة إلى أن دخلت على عمرو وكان ذلك عند منتصف النهار وكان الحر شديداً حتى أن الشجر يميل من شدة الحر من غير ريح تحركه.
فلما رآها استحى منها وأمر الجاريتين بالانصراف إلى ناحية،ثم قال لها : هلمي ياطريفة ، فقالت له متنبئة: " والنور والظلماء والأرض والسماء إن الشجر لهالك وليعودن الماء كما كان في الزمن الهالك.
قال عمرو : من أخبرك بهذا ؟ قالت: أخبرني المناجد بسنين شدائد ،يقطع فيها الولد الوالد. قال : ماتقولين ؟ قالت : أقول قول الندمان لهفاً ،لقد رأيت سلحفاً تجرف التراب جرفاً ،وتقذف بالبول قذفاً.فدخلت الحديقة فرأيت الشجر من غير ريح يتكفأ.
قال : ماترين في ذلك؟ قالت : هي داهية دهياء من أمور جسيمة ونصائب عظيمة ! قال: وماهو ويلك؟ قالت : أجل إ ومالم فيه من قيل(النوم) وإن الويل فيما يجيء به السيل.
فألقى عمر نفسه عن فراشه وقال : ماهذا ياطريفة ؟ قالت : خطب جليل وحزن طويل وخلف قليل !..قال : وماعلامه ماتذكرين ؟ قالت : اذهب إلى السد ،فإذا رأيت جرداً يكثر بيديه في السد الحفر ،ويقلب برجليه من أجل الصخر ، فاعلم أن غمر الغمر وأن قد وقع الأمر.
قال : ومالذي تذكرين أن يقع؟ قالت : وعد من الله تعالى نزل ،وباطل بطل ،ونكال بنا نكل ،فبغيرك ياعمرو يكون الثكل ،فانطلق عمرو فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة مايقلبها خمسون رجلاً فرجع إلى طريفة فأخبرها الخبر وهو يقول:
أبصرت أمراً عادني منه ألم
وهاج لي من هوله بزخ السقم
من جرذ كفحل خنزير الأجم
أو كبش صرم من أفاريق الغنم
يسحب صخراً من جلاميد العرم
له مخاليب وأنياب تضم
ما فاته سحلا من الصخر مصم
فقالت طريفة :وإن علامة ذلك الذي ذكرته لك أن تجلس فتأمر بزجاجة ،فتوضع بين يديك فإن الريح تملؤها من تراب البطحاء من سهلة1 الوادي وزمله ،وقد علمت أن الجنان مظللّة لايدخلها شمس والريح.
فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه ،ولم تمكث طويلاً حتى امتلأت من التراب ،فأخبرها بذلك ،وقال لها: متى يكون ذلك الخراب الذي يحدث في السد قالت : فيما بيني وبينك سبع سنين.قال : ففي أيها يكون؟ قالت : لايعلم بذلك إلا الله تعالى ،ولوعلمه أحد لعلمته ،وإنه لا تأتي علي ليلة فيما بيني وبين سبع السنين إلا ظننت هلاكه في غدها أو مسائها.
ثم رأى عمرو في منامه سيل العرم2 ،وقيل له : إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعف النخل ،فنظر إليها فوجد الحصباء قد ظهرت فيها ،فعلم أنه واقع وأن بلاده ستخرب.
فكتم ذلك ،وأجمع على بيع كل شيء له بأرض مأرب ،وأن يخرج منها هو وولده ،ثم خشي أن تنكر الناس عليه ذلك ،فأمر أحد أولاده إذا دعاه لما يدعوه إليه أن يتأبى عليه ،وأن يفعل ذلك في الملأ من الناس ،وإذا لطمه يرفع هو يده ويلطمه.
ثم صنع عمرو طعاماً ،وبعث إلى أهل مأرب : إن عمراً قد صنع طعاماً يوم مجد وذكر ،فاحضروا طعامه.
فلما جلس الناس للطعام جلس عنده ابنه الذي أمره بما قد أمره فجعل يأمره فيتأبى عليه ،فرفع عمرو يده فلطمه ،فلطمه ابنه، فصاح عمرو واذلاه يوم فخر عمرو يهيجه صبي ويضرب وجهه ! وحلف ليقتلنه ،فلم يزالوا به حتى تركه وقال : والله لا أقيم بموضع صنع هذا بي فيه ولأبيعن أموالي حتى لايرث بعدي منها شيئاً.
فقال الناس بعضهم لبعض : اغتنموا غضبة عمرو، واشتروا منه أمواله قبل أن يرضى فابتاع الناس منه كل ماله بأرض مأرب، وفشا بعض حديثه من سيل العرم، فقام ناس من الأزد فباعوا أموالهم فلما أكثروا البيع استنكر الناس ذلك
1- سهلة : الرمل الذي يجيء به الماء.
2- سيل العرم : هو السيل المشهور الذي سبب خراب سد مأرب.
وأمسكوا عن الشراء ،فلما اجتمعت إلى عمرو أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم ،فخرج لخروجه منها بشر كثير.
وهكذا كان لطريفة الكاهنة فضل التنبؤ بحدوث سيل العرم ذلك السيل الذي أدى إلى خراب سد مأرب وخراب الحضارة العظيمة التي بناها العرب في جنوب الجزيرة العربية
ومما سمعنا وقرأنا نتبين أن طريفة جمعت إلى كهانتها فطنة وذكاء وعقلاً راجحاً استنتجت من خلاله مما رأت أن هذا السد صائر إلى الخراب
دعبد الحميد ديوان .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق