الاثنين، 20 مايو 2024

حتى لا ننسى مظفر النواب..الشاعر الذي يكتب من خارج فلول الكتابة.. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 إلتقيته ذات زمن بدمشق..

حتى لا ننسى مظفر النواب..الشاعر الذي يكتب من خارج فلول الكتابة..
“سرت في اتجاهك العمر كله،وعندما وصلت،انتهى العمر”.(الشاعر الراحل مظفر النواب)
-المنفى يمشي في قلبي/في خطواتي في أيّامي/المنفى كالحبّ يسافر/في كلّ قطارٍ أركبهُ/في كلّ العرباتِ أراهُ/حتّى في نومي
يمشي كالطرقات أمامي/في هذا العصر/يكون الإنسان/ويُعرَفُ مِن منفاهُ»(مظفر النواب)
لكي نتعرف على خصوصية وجذور شعر مظفر النواب فاننا بحاجة للرجوع الى قصائده الأولى،وقد وجدنا ان احدى قصائده لم تنشر غير مرة واحدة،ولكنها رغم ذلك تحمل الكثير من هذه الخصائص والجذور فقد نشرت مجلة الطليعة الكويتية لسان حال حركة القوميين العرب بعددها الصادر في السابع والعشرين من نيسان/أفريل عام 1974 ولاول مرة قصيدة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب التي تعتبر من ارقى قصائد الاستشراف الميداني للواقع العربي الذي سيحصل بعد سبعينات القرن الماضي اضافة الى اعتبارها احدى قصائد الشاعر القريبة من قصائد جيل الرواد في الشعر الحديث الذي برز من جيل بدر شاكر السياب والمغذى بجمال قصائد بلند الحيدري ..
وقد يرى الكثير ان ما بين مظفر وجيل الرواد بعدا زمنيا عدا ان احداث قصائد جيل الرواد لم تكن حادة وثورية كما هي في شعر مظفر،هنا لا بد من التنويه انني سوف لن ابحث في عموم شعر مظفر النواب حتى يتحتم على المقارنة بين ذاك الجيل وشاعرنا بقدر قصيدته عروس السفائن ..
وقد اهتم الشعراء بالتعبير عن واقع الامة العربية حتى اضحت القصائد تروي لنا قصة مملوءة بصورة الواقع السياسي والاجتماعي الذي يكتب فيه الشاعر قصيدته.
ويتميز النواب بحدة ومأساوية ذلك مركزا على دور السلطة في ذلك.
ووسط تردي واقع الامة وانتكاساتها التي تعاقبت بعد هزيمة حزيران /جوان 1967 وما ترتب عليه الوضع اهتزت مشاعر شاعرنا النواب…
ومن كان يظن ان اممية مبادئ مظفر النواب تبعده عن احساسه العروبي فتلك حسابات خاطئة واتهامات باطلة لذوق وخلق الشاعر الذي أعقب قصائده بعد عروس السفائن بالكثير من القصائد ذات البعد التعبوي لجماهير الشعوب العربية وتحفيزها ضد حكامها بإعتبار ان الملوك والرؤساء العرب هم المسؤولون عما جرى ويجري حتى الان ..
وهذا ما عنيته اول الامر بالقول ان هذه القصيدة استشرافية لولقع حدث وسيحدث..
ــ عروس السفائن الصقت ظهري الكسير على خشب الشمس فيك
حريصا على الصمت/مدمي من الناس في البر استنجد البحر
ان الحروف ــ المخالب في غيبتي/نهشت ما تبقى من الصبر في مضغة القلب/فلتقلعي يا عروس السفائن جهرا ../فما عدت احلم بين انتكاس الرؤوس ../اذن دارت الشمس دورتها،وارتأتني الرؤى ..نائما تحت ألف شراع …مجوسية قصتي معبد النار فيها .
وقلبي على عجل للرحيل..
اذا كان معتادا ان يبدأ اغلب الشعراء بقصائدهم بالتغني والتغزل بحبيبة القلب ثم تفتح قريحتهم على واقعة القصيدة..فإن مدخل النواب كان انينه وتعبه مما يجري حوله من احداث رغم ان مأساته الشخصية في ابتعاده القسري والذي صار فيما بعد اختياريا وبعدا عن الوطن كان يجب ان يهزه ويبكيه فيما هو عليه من الم الواقع العربي ..
واختيار الشاعر لأداته البحر والسفينة في الانطلاق بهذه القصيدة كان لغرض مصالحة نفسه لنفسه..ولان ذلك يبعد القصيدة عن المباشرة ويجعل صورها اكثر حسية واقرب للرمز والايحاء
اذ يقول ..
بعيدا عن الزمن المبتلى يا سفينة/ان قليلا من الوزر امتعتي المزدهاة/ولن تثقلي بالقليل../سابقي المصابح موقدة في بهاء الصباح،مصالحة بين صحو الصباح وصحوي/وابقي الرياح دليلي..
ويستمر مظفر في التغني بوحدانية احزانه وانينه على واقع يهز مواجعه حتى تستصرخه روحه الى صياح ومناداة اليمة ..
يستصرخ البحر الذي ركبه وسفينته المفترضة تخيلا او قد تكون حقيقة ذلك ان الشاعر قضى اغلب حياته متنقلا اثقلته انظمة الردة وجراحه منها..كما يقول في احدى قصائده ..
"واه من العمر بين المقاهي لا يستريح/ارحني قليلا فإني بدهري جريح.."
يتواصل انين الشاعر في عروس السفائن صارخا من الالم..
ــ ساصرخ يا بحر..يا بحر ! يا رقص ! يا رب !/يا عتمات/زحار بكل التقاليد،هذا هو الوقت ./فلتعصف الازمات/أم القوم ماتوا /هو الانفلات المدمر ات دويا يغذي دويا/كأن المقادير جاءت لها عجلات../سينتكس الكون مما ستلقي البراكين من حمم/او تكون الحياة..
واذ تحتدم أوجاع الشاعر في تحديد الانظمة التي اتخذت الثورية سلوكا مضاء لها..فنراه يبكي على واقعة جعلها مقدمة لمقطع الدخول الى تشخيص الانظمة المعنية بالصراع حيث ينطلق من سوريا ..
" في مدينة كذا القريبة من دمشق،وبتاريخ كذا..منع دفن طفلة من اللاجئين في مقبرة المدينة لأنها من اللاجئين ،ثم دفنت برشوة..
الا فلينهض المعدمون الصعاليك.قد أوغل الاغنياء ../لقد منعوا دفن طفلة من اللاجئين،لئلا تدنس بغريب ارض الشام ./فليسمع العرب النجباء/لقد كان في الفجر./في مطر الفجر./ في شجر الفجر/اذ منعوا دفنها/عرق الفجر ./فليعرق الفجر/شاهدة عرقت .
ينطق الطين لو ينطق الطين /لكنها الارض ملك لرب العباد ..
ــ وهذه الجنازة اصغر من اصبعي. ــ انما رفضوا/كلهم رفضوا/لا ليس عهدي باهلك يا شام هذا..
ويرحل شاعرنا المهاجر على اجنحة الضيم وحرمان الحنين للوطن,يرحل الى مصر باكيا ويخاطبها برمزها الالهي..فرعون..ذاك الذي عصى ربه وكان جبروتا واهرامه الشاخصة عبر العصور رمزا لحضارة مصر ..
افرعون اسرع/يا من تخلد اهرامك الموت/اسرع !/هناك من يبتني هرما للمخازي/تقزز وجه الالهة،ألهب ظهر الجياد/سياطا .. واقرصها/صمت/قف ايها السادن الابدي/فمن يملكون السدانة قد سرقوا شعب مصر/ زوروا شعب مصر/وقعوا باسم مصر،ومصر براء..
وحتى نأتي الى بنيوية القصيدة وموسيقاها وتفعيلتها لابد ان نتواصل في مسك ختامها حلم الشاعر الذي اختاره قسرا واختيارا ذاتيا..انه العراق،لقد امسك النواب بوابة العراق من نجومه وهو على ظهر سفينته وفي بحره اللجي
عروس السفائن ! ادعوا النجوم الى قمرتي،فأنا الان اولم نذرا/والبس ابهى ثيابي/فقد كنت عند نخيل العراق/وان كان حلما/وكان العراق على مهره عاريا مثلما ولدته السماء/وكان على عتبات العراق الفضاء/وبين ضلوعي،فضاء به نجمة لست ادري بماذا تضاء ..وفي نجمتي تلك يجتمع الله والانبياء ..
وفي فضاء جفاء الشاعر مع عشقه العراق تحتشد في صدره غيوم كثيفة سرعان ما تزيحها امال اي شاعر حالم,وما اجمل من حلم يحمله مظفر النواب لبلده بقوة الشاعر الثائر ../ايا وطني ضاق بي الاناء/كأن الجمال بليل الجزيرة سوف يطول عليها الحداء
كأن الذي قتل المتنبي , لشعري ابتداء/لأمر يهاجر هذا الذي اسمه المتنبي/وتعشقه بالعذاب النساء
وما قدر انه في الجزيرة يوما،في مصر يوما/وفي الشام يوما
فأرض مجزأة/والتجزء فيها جزاء/عروس السفائن كل على قدر الزيت فيه يضاء ..
مظفر النواب في عروس السفائن تعدى في صياغته الشعرية موضوعه المعتاد فباتت العناية باللغة الشعرية متلازمة لموضوعه السياسي وقد تقدم في استشرافه لواقع حال الامة في لغة ثورية لازمته طويلا وطويلا حتى في ما بعد قصيدته هذه اذ كانت هذه القصيدة بمثابة الأساس لقصائده اللاحقة،وكـــأنها قد زرعت نفسها في مسيرة النواب للعشر فضلا عن ذلك السفر في روح القصيدة فقد ظهرت تاثيرات احساسه القومي رغم ايمانه بأممية القضية التي ناضــــــل من اجلها عبر سنوات حياته.
ولم يكن ظاهرا في موسيقى القصيدة اي اضطراب الذي غالبا ما يقع فيه شعراء القصيدة الحرة الطويلة ..
مظفر النواب يكتب من خارج فلول الكتابة،إنه مهندس على المادة الورقية حيث يسور قصائده بقسوة التحدي والتمرد،والمواجهة، والثورة..إنّ الكم الكبير من الاستلاب المتماهي في قصائده يجعل القارئ يعيش ارهاصات وجدانية وتاريخية مجمعة في المادة الشعرية من صور وتشظي وانبناء وانسحاب..الشعر يشبه الوحي، هكذا تقول قصائده،فهو يصدر عن رؤية ورؤيا وكلاهما ضرب من ضروب الامتداد الانثروبولوجي.فجمالية الاستلاب في شعر مظفر النواب تتأصل في انغراس معطياتها وافرازاتها في أعماق تاريخ المعارضة السياسية والتاريخية العربية الرافضة للاستبداد والقاطعة مع القمع وحكم البوليس السري.
لقد سربل النواب ذاته بعباءة ظاهرها المبدع وباطنها الثائر المتمرد.
فالاستلاب ليس في واجهة قصائده فحسب بل في ذاته الفردية والجماعية،يعبر عنها من خلال فلسطين والعراق وليبيا واليمن.. إنها حالة عشق،يدافع فيها الشاعر العاشق لقضايا الناس عن المفقود والمنشود،لأنه تواق لبلوغ انسانية هذه الامة الممزقة. انسانية لا وازِع لها إلا الضمير،يسعى من خلالها لثورة عارِمة على العادات البالية والتقاليد الاجتماعية الساذجة والروح الهدامة. ويناضل لظهور كل شيء للعلن،فهو يعلن الهزيمة داخل النصر، ويعلن النصر من داخل الهزيمة،فلا حال مستقر عنده،وهنا تكمن حقيقة الاستلاب الذي يعيشه الشاعر انسانا ومواطنا وسياسيا وعسكريا..يعيشه طفلا ورجلا وامراة وشيخا..والاستلاب خوف ووجع ووطن في قصائده..
ختاما،لم يكن إعلان اسم مظفر النواب مرشحا لجائزة نوبل للآداب ثم فوز الكاتب البريطاني من أصل ياباني كازو ايشيغورو سوى مواصلة لحالة الاستلاب التي يعيشها الشاعر،ولو سنحت الفرصة بعيدا عن الموضوعية المطلوبة لقلت: مظفّر النواب لا يمكن أن يحيا دون استلاب.
لكنه سيعيش اليوم في قلوب مريديه..من البحر إلى البحر..
نَم بسلام أيها الشاعر العظيم..ولروحك السلام..
محمد المحسن
*مظفر عبد اللمجيد النوّاب،هو شاعر عراقي معارض سياسي بارز وناقد،(ولد في 1934 في بغداد ) لُقِب بـ«شاعر القصيدة المهرّبة».تعرّض للملاحقة وسجن في العراق،عاش بعدها في عدة عواصم منها بيروت ودمشق ومدن أوربية أخرى.وصف بأنه «أحد أشهر شعراء العراق في العصر الحديث».
قالوا عنه الشاعر المناضل،ووصفوه بمنشور سرّي تحول بسبب حب جماهيره إلى منشور علني،أما ألصقُ الألقاب به فكان “شاعر القصيدة المهرّبة”، إنه مظفر النواب،الشاعر المثير للجدل والدائم الخروج عن النص،ابن الناس الناطق بنبض قلوبهم وزفرات صدورهم.
بالأمس القريب رحل عن الدنيا،لكن قصائده الصارخة الساخرة قد تعمر بيننا طويلا، ذلك أنها تحكي نكباتٍ ممتدة وخذلانا مستمرا وقهرا ما زال جاثما على الصدور.
قال عنه صديقه الشاعر عدنان الصائغ إنه شكل علامة مهمة في الشعر العراقي والعربي،استطاع من خلال تعبيره عن هموم الناس وتحدي السلطات،كسب قاعدة واسعة من الجماهير من خلال صوته المتميز.
أثار نبأ رحيله الجمعة 20 ماي 2022 عن 88 عاما إثر صراع مع المرض،في أحد مستشفيات مدينة الشارقة بدولة الإمارات،حزنا عبّر عنه كثيرون عبر شبكات التواصل الاجتماعي العراقية والعربية.
**هذه القصيدة ألقاها على مسامعي في أحد لقاءاتي معه بدمشق بصوت خافت هادئ،وذلك عندما سألته،هل تكتب قصيدة النثر؟ أجابني كلا،كلّ شعري موزون،واستشهد بهذه القصيدة:
إلى الضابط الشهيد إبن مصر...
ليس بين الرصاص مسافة
أنت مصر التي تتحدى
وهذا هو الوعي حد الخرافة
تفيض وأنت من النيل
تخبره إن تأخر موسمه
والجفاف أتم اصطفافه
وأعلن فيك حساب الجماهير
ماذا سيسقط من طبقات
تسمي إحتلال البلاد ضيافه
ولس قتيل نظام يكشف عن عورتيه
فقط
بل قتيل الجميع
ولست أبرىء إلا الذي يحمل البندقية قلبا
ويطوي عليها شغافه
لقد قبضوا كلهم
وأحقهم من يدافع عن قبضة المال
مدعيا أنها الماركسية أم العرافة...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق