متابعة نشر مشاركات الأديبات في كتاب " شموع تونسية"
اليوم مع الروائية الصديقة شادية القاسمي chedia guesmi
شادية القاسمي/ السيرة الذاتية
شادية ڤاسمي، أستاذة فوق الرتبة في اللغة والآداب العربية.قاصة وشاعرة وروائية تونسية عضوة باتحاد الكتاب التونسيين .لها إصدارات روائية ذات أهمية.أولا ... مجموعة شعرية بعنوان "تراتيلُ". صدرت سنة 2014 وقد قدمها الشاعر يوسف رزوڤة عن دار الثقافية للنشر / المنستيرثانيا.... رواية "المصبّ" صدرت عن دار زينب للنشر والتوزيع سنة 2016 وحصلت على جائزة لجنة التحكيم ( كومار الذهبي للرواية التونسية)في نفس السنة.ثالثا.. رواية "رايات سود" صدرت عن دار زينب للنشر والتوزيع سنة 2018رابعا.. طيف غيمة نافرة.. مجموعة قصص قصيرة جدا من تقديم الأديب ابراهيم الدرغوثي عن مؤسسة القلم الحر / مصر 2018.ولها رواية نجع ڤمرة تحت الطبع .صدرت لها حديثا رواية الفرناڤلها منشورات كثيرة في الصحف التونسية منذ التسعينات كصحيفة الرأي العام والشروق والأنوار والصدى والصحافة والجمهورية. كما نشرت في جرائد عربية مثل صحيفة التحرير والشاهد والجديد الجزائرية وجريدة التحرير العراقية وأخبار اليوم المصرية وجريدة "الجريدة" الكويتية.لها نشاطات متعددة في الحياة الثقافية إذ شاركت في العديد من الملتقيات الأدبية داخل تونس وخارجها، مثل الصالون الثقافي بالمنستير 2014 وملتقى القصيدة الومضة بسوسة 2014. شاركت بمهرجان الشعر المغاربي للمحبة والسلام في دوراته.. (2015..2016..2017) وبملتقى الشعر الفصيح في وادي سوف بالجزائر سنة 2015 وكذلك بمهرجان همسة الدولي للأداب والفنون بمصر سنة 2016 وبمهرجان القلم الحر للآداب بالفيوم / مصر.
النصوص1...
نيّرة ...
ياصرخة " نحن" كل الإناث في أصقاع العالم...يا دم الفداء يُراقُ كي نستمرّ معهم في هذا الكوكب...نيّرة أنتِ الآن في مكان بعيد آمن لا ذكورية فيه ولا جندر ولا غرائز تحركها شعرةٌ نافرةٌ أو قطعة من جسد. أنتِ هناك قرب الله.. يمكنك أن تحدثيه عن الألم الذي أحسسته وأنتِ الغافلة والسكين يجزّ رقبتك ..كنت أمام رحاب الكلية ،تقفين على الرصيف وقد كنت تطلبين العلم.. لم تستفزّي مشاعر ،لم تتعدَّيْ على أحد ولم تمارسي عملا يستحق الذبح...مازلنا تحت سطوة الذكورية الفجة المتسلطة التي لا ترحم.. ذكورية التعاليق التي تلت موتك هي نفسها المعششة في دماغ الكائن الذي ذبحك.. ذكورية الانتفاخ والسيطرة على الكون..عززتها إناث مثلك وزرعنها في مشاعر الناس منذ ولدوا.. أنتَ ولد.. ولد بكل ماتحمله الكلمة من معنى .وأنتِ بنت بكل مافي الكلمة من دونية.كثيراتٌ صرخن ضد هذا الحيف لكن ماكينة الميز واصلت طحن من يرفضن هذا..كان عليك أن تلبسي " قفة" ..أن تكوني تحت طاقية الإخفاء كأنّ المنقبات والمحجبات لم يطلهنّ العنف ..كان عليك أن تقبلي به وتقدمي نفسك فداء لتعيشي..وكأنّ الأزواج لم يقتلوا زوجاتهم ..كان عليك أن تخترعي حيلة لتعيشي.. ولم يكن عليه أن يراك إنسانا من حقك أن تعيشي...أنتِ واحدة أخرى ولستِ الأخيرة..كثيرات حول العالم متن لأنهنّ إناث وُئدن لأنهن إناث حرمن من حقوقهن لأنهن إناث ..الأنوثة لعنة تلاحق حاملاتها في كل زمان ومكان ..لعنة لم ولن تتوقف..لعنة تطال الجميع دون تفرقة في السفور أو الحجاب أو الجمال أو القبح أو الشباب أو الشيخوخة ،مادامت الذكورية المقيتة تسيطر على الأدمغة الفارغة..قليلون هم الرجال وكثيرون هم الذكور الذين يتحولون إلى وحوش آدمية...نيّرة أنتِ رمز كل من دمرتهاأنوثتها في هذا العالم.
2 النص الثاني..العاقرُ الثكلى ( من رواية نجع القمرة)
عندما صارحني الطبيب أنني لن أنجب في المستقبل.. لم أتخيل كثيرا ما سيحصل لذا لم أمنع قلبي أن يدق لابن عمتي. بقي السرّ في صدريْن فقط أنا وأمي وملفّات الطبيب وعلم الله لا غير.. انتصرت أنانيّتي ولم أخبره أنني سأكون عاقرا.. تزوجنا ولم يبدأ في طرح الأسئلة إلا بعد سنة تقريبا، كنتُ أوجد جوابا لكلٍّ منها وطال الوقت ومرت السنوات والبيتُ فارغ بارد.. إلى أن دخل عليَّ سلفي يبكي مصيبته.. يجرُّ وراءه فتاة في السادسة عشرة كانت حاملا في شهرها الخامس.. يبحثان عن حلّ لإجهاض جنينها.. سبحان الله! ما أبحث عنه ويمثل حلما مستحيلا يريدان هما التخلص منه بحقنة، بعملية.. أقنعتهما أنني أريد المولود وتحملت مسؤولية الفتاة ما بقِيَ من أشهر، كانت معينة منزلية تعمل بعيدا عن أهلها وطردها أصحابُ العمل بعد أن تفطنوا للحمل.. مرت الأشهر ثقيلة مع الفتاة التي فهِمت رغبتي في الطفل فزادتْ دلالا وخفيفة في انتظار المولود الذي جاء فتلقفته مع زوجي بلهفة وشوق.. زال العائق امام سلفي وحبيبته ,وصار بإمكانه أن يقدمها إلى أهله. وتزوجا بعد أشهر من الولادة. كان طفلي يكبر بين أحضاني ونسيا منسيا لأبويْه.سهِرتُ وطببتُ وهدهدتُ وكبر بين يديَّ، سنوات أنجبتْ فيها سلفتي أطفالها الثلاثة وتمكنتْ ومدّتْ جذورها في بيت عمّتي.. وصار بإمكانها أن تطالب بحقّها وصار بإمكانها أن تقول هذا ابني.. لم تشبع بأمومة الثلاثة ولم تعد تخجل به لقيطا.. ولم يعد أحد من الأسرة المحافظة يستطيع أن يرفضها لأنها أنجبت خارج إطار الزواج. بدأت حربٌ باردة بيننا، وجدت أنني فيها بلا سند سوى محبّتي للصغير وتعلقه بي .. زوجي تخلى عن مساندتي، عمتي الحماة المحافظة تركتني لمخالب كنّتها، عمّي.. أسرتي.. افتكوا الطفل رغم وثائقي، رغم التبني أخذتْ طفلها لم يبق سوى اسمي على وثائقه ودموع لا تنتهي في عينيْه، نسِيَ كلُّ من حولنا ذنبها وصاح الجميع بذنبي الكبير وهو أنني "عاقر" تحملتُ الوجع، لكن الصغير لم يتحمل حزنه وحنينه وقوة المنع التي مارسها الجميع وخاصة أمه البيولوجية.. ذات صباح، علا الصراخُ مات الصغير وتركني، كنت عاقرا.. فأصبحتُ ثكلى.
/ قراءة نص .. العاقرُ الثكلى لشادية القاسمي
التمهيد
شهدت الرواية التونسية المعاصرة منذ الولادة حتى اشتداد عودها، تحولات كثيرة شأنها شأن الرواية العربية عموما وسجلت تطورا ملحوظا على مستوى التقنيات السردية والأسلوبية عموما وكذلك على مستوى المضامين.وردتْ أوّلُ رواية "الهيْفاء وسراجُ الليْل" للكاتب القيْرواني صالح السويسي حلقاتٍ متسلْسلة في مجلة خير الدين وهو ما عرضها للإهمال وعدم المتابعة وذلك سنة 1906.وظلت الرواية شبه متجمدة نصف قرن حتى ظهرت أولُ رواية يضمها كتاب للروائي محمد العروسي المطوي بعنوان " ومن الضحايا" سنة 1956.ولعل هذا التاريخ يشكل الانطلاقة الفعلية لمرحلة التأسيس الفعلية للرواية التونسية .وقد اتسمت هذه المرحلة التأسيسية بالاحتشام والتعثر إذ لم تكن تقنيات الكتابة الروائية قد اتضحت لدى الروائيين الطليعيين وطغى عليها الطابع الوعظي الإرشادي والإيديولوجي ،ثم تتالى النشر وتعددت الأسماء ورسخت الأقلام في تربة روائية خصبة فصارت أقرب إلى الذات والواقع الاجتماعي انطلاقا من محمد العروسي المطوي بروايتيْه "حليمة" و"التوت المر" مرورا بالبشير خريّف الذي تميز بطابعه الخاص الذي جعل النقاد يسلطون عليه اقلامهم وتعددت الدراسات. ومن أعماله على سبيل الذكر لا الحصر " برڤ الليل" و" الدڤلة في عراجينها" وقد اتسمت كتاباته باللون التاريخي طورا والواقعي طورا آخر. كما عرفت الرواية التونسية مرحلة ثانية يمثلها جيل ظهر بعد الاستقلال مباشرة حاول كتابه الوفاء لجيل التأسيس ولكنهم وحاولوا الانفتاح على نوع من التطور وإن كان خفيفا. حافظوا على اللون التاريخي مزاوجين بينه وبين اللون الواقعي نذكر منهم عبد القادر بالحاج نصر في روايته "الزيتون لا يموت" التي صدرت سنة 1969.وكذلك محمد الهادي بن صالح الذي نشر 15 رواية وأغلبها ينتمي إلى اللون الواقعي النقدي .من أعماله " في بيت العنكبوت" التي صدرت سنة 1976.، دون أن ننسى محمد رشاد الحمزاوي وروايته " بودودة مات" وكذلك مصطفى الفارسي وروايته "المنعرج" ومحمد الصالح الجابري وروايته و""البحر ينشر ألواحه و"ليلة السنوات العشر"و " يوم من أيام زمرا "أسماء كثيرة لا يسمح المجال بالوقوف عندها جميعا .نشير فقط أن جل كتاباتهم راوحت بين الطابع التاريخي وتصوير الواقع المتردي مع التركيز على الفئات المهمشة المقهورة.ويعتبر هذا الجيل مخضرما إذ أخلص للمؤسسين وانفتح على الجديد.ولعلّ رواية "حدث أبو هريرة قال..." لمحمود المسعدي التي بدأ الكاتب بنشر فصول منها سنة 1944 ولم تصدر كعمل متكامل إلا سنة 1973. وتعتبر عملا متفرّدا بالمقارنة لما صدر معه في نفس الفترة.ثم قفزت الرواية التونسية مع الجيل الذي اعتبر منزاحا عن مرحلة التأسيس إلى مصاف الأعمال التي تشربت ماء الحِرفيّة وتجذرتْ في تربة المغامرة والتجديد وذلك باحتذاء الرواية الغربية التي شهدت تطورا واضحا.وتجدر الإشارة إلى أن ما ابتدعه الغربيون من تقنيات سردية جديدة في القصّ استحوذت على اهتمام الروائيين الطليعيون في تونس وأفادوا منها على أوسع نطاق وهو ما نلمسه في كتابات عزالدين المدني وسمير العيادي ورضوان الكوني وغيرهم.ولعل ابراهيم الدرغوثي هو الروائي الذي حاز على إجماع النقاد واهتمامهم لأنه اتبع مسارا تحديثيا تجلى بوضوح في روايته " الدراويش يعودون إلى المنفى" التي صدرتْ سنة 1992.ثم بلغت الرواية التونسية مرحلة النضج والوعي عندما أدرك الكتاب أنّ الحكْيَ فنٌّ قائمُ الذات ومستقل عن غيره من الأجناس وليس لوْح السندباد يركبه الكاتب لإلقاء خطبة وعظية أو سياسية أو وسيلة تسجيلية تأريخية لبعض الأحداث بأسلوب مباشر مملّ خال من كلّ تشويق أو مباغتة للقارئ، وانطلقت هذه القفزة النوعية مع جماعة تحت السور وأخصّ بالذكر القصاص البارع علي الدوعاجي الذي كرس الواقع وامتطى النقد والتزم بالإيحاء دون غموض وبالوضوح دون مباشرة أو تلقين.ثم بعد ذلك لمعت في سماء الرواية التونسية أسماء ذات وزن وكان لها حضورها المتميز وبريقها الساطع هؤلاء الذين لم يقفوا عند الإفادة من تجارب الغرب بل متحوا من معين ذواتهم وتشبعوا من مخزون تراثهم وصوروا ما عكسته مرايا الواقع على الفكر والوجدان. منهم من جاء إلى الرواية من القصة وأبدع في المجاليْن مثل الأديب محمد الباردي رحمه الله وقد تعددت ملامح الكتابة لديه من الواقعية شبه التسجيلية إلى الواقعية النقدية إلى التجريب ومن أعماله " الكرنفال" 2003 وحنّة 2010 وغيرهما. وللمرأة نصيب في هذا البحر الذي يزخر بالدرر فنذكر الأديبة مسعودة بوبكر ومن أعمالها الروائيّة "الألف والنون" التي صدرت سنة 2009.دون أن أنسى الأديبة حفيظة الڤاسمي بروايتها التي شدت الأنظار إليها بطابعها الوجودي ونبرتها الصوفية الشعرية وهي" رشوا النجم على ثوبي." وهناك روائيون جاءوا إلى الرواية من الشعر مثل حافظ محفوظ وعبد الجبار العش وغيرهما. وقد حاول بعضهم توظيف العجائبي والأسطورة كما تمكن بعضهم من تحويل الأفكار إلى رموز فلسفية ورؤى وجودية. ومن هؤلاء فضيلة الشابي التي أصدرت روايتيْن يغلب عليهما الطابع الفلسفي الوجودي وهما: "الاسم والحضيض التي صدرت سنة 1992 وكذلك" تسلّق الساعات الغائبة" سنة 2000. هكذا إذا عرفت الرواية التونسية منذ ولادتها الأولى سنة 1906 وبعد ولادتها الفعلية الثانية بعد نصف قرن تحولات كثيرة ومرت بمراحل كثيرة من الحبْوِ إلى الخطى المحتشمة إلى الوقوف والتوازن حتى النضج والتحليق في سماء الإبداع. ولم أتعرض إلى كل الأسماء لإن المجال لم يسمح بذلك واكتفيت بإشارات إلى العلامات الفارقة.أمّا الروائية شادية القاسمي فلا يسعني إلا أن أقول إنها رغم وجودها في هذه المرحلة من النضج في مسيرة الرواية التونسية فإن طريقها لا تخلو من الانزلاقات، إذ أن هذا الزخم الهائل من الروائيين والكم الهائل من الروايات لا يسهّل مهمتها بل إنها في مرحلة حساسة. وهي مطالبة بالتجاوز قيميا والاختلاف نوعيا وهو ما يحتم عليها ألا تكون رقما في قطيع وإنما أن تكون علامة فارقة ولعل روايتها " المصب" الفائزة بجائزة "كتارا" أصدق دليل على ذلك. فالروائية شادية الڤاسمي لم تتسم كتابتها بالاتباع فلا ترجمة ولا وعظا ولا إرشادا وتلقينا بل آمنت بالتجذّر في الواقع فوظفت السرد للنقد والتوعية مع الإمساك بدفّتيْ الإمتاع والإبداع. ولعل ما ساعدها على ذلك أنها كتبت الرواية عندما اتضحت لها معالم الرواية واستقامت تقنياتها في ذهنها فجاءت كتاباتها بعيدة عن العفوية وافتعال الأحداث بأسلوب متكلف مملّ بل راهنت على تشكيل الوعي الإبداعي بذكاء لأنها تعلم بل تؤمن أن السرد ليس "مطيّة" للخطابة أو التأريخ أو الوعظ وإنما هو جنس أدبي له جذوره في الأدب العربي وأصوله في القصص القرآني وبالتالي تعاملت مع الحكي على أساس التجذر والاستقلالية فابتعدت عن التلقين الممل وامتطت جناح الإيحاء بعيدا عن التقرير والمباشرة فكان الإيحاء والتلميح والتكثيف من مميزات كتاباتها الروائية .ولعلّ نصها " العاقر الثكلى" من روايتها " نجع ڤمرة" وهي قيد الطبع سيكون شاهدا على ذلك.
العنوان: العاقرُ الثكلى
ورد العنوان جملة اسمية مختزلة حذف منها المسند إليه وهو ناسخ حرفي "إنّ" وضمير متصل وهو اسم الناسخ " ها"( إنّها) وفيه من التأكيد ما يحيل على الكثير من التلميحات. أما المسند/ خبر الناسخ إنّ ،فهو مركب نعتي ورد النعت والمنعوت فيه معرّفيْن بالألف واللام (العاقرُ الثكلى).المعنى المعجمي للمنعوت / العاقر هو كل امرأة أو رجل لا يمكنه الإنجاب. ليس العقم مرضًا وإنما هو ظاهرة فيزيولوجية قد يتعرض إليها أيٌّ من الرجال أو النساء كما هو على المستوى الإنساني، ليس عيبا ولا ذنبا يرتكبه أحدهما ولكن المجتمع يجرّم المرأة العاقر ويعتبرها "منقوصة" الأنوثة إذ العقم اجتماعيا يعتبر عيبا تحاسب عليه المرأة وتعاقب بالطلاق في حين يتم التكتم والتستر إن كان العاقرُ رجلا.والمنعوت "الثكلى " ورد على وزن فَعْلى وهي صفة مشبهة في صيغة المؤنث توصف بها الأم التي تصابُ بفقد فلذة كبدها. من هنا تبدأ رجة القارئ كيف يلتقي المتباعدان؟ كيف تكون العاقر ثكلى؟ لقد جمعت الروائية في هذا العنوان بين المستحيليْن كأنها تقول يمكن للخطيْن المتوازييْن أن يلتقيا. لكن كيف؟ جاء هذا العنوان نسيجة بين الحيرة والتشويق، بين الصدمة والتحفيز بين الترغيب والمراوغة.ولعل ذلك ما سيحقق نجاح الكاتبة شادية الڤاسمي في شد اهتمام القارئ وذلك بزرع بذرة التساؤل والحيرة في ذهنه بل الرغبة في المتابعة للوصول إلى فكّ اللغز، عاقر /ثكلى؟؟؟ كيف ذلك؟
وهو ما سيجيب عليه النص تدريجيًّا...
.مقاطع النص.
..منذ القراءة الأولى لاحظت تقاطع الكثير من التيمات وتنامي العديد من القضايا وتنوّعها. كما لاحظت عدم تأطير النص مكانيًّا وزمانيًّا وهو ما يمنحه جناحيْن يتحرّك بهما بحريّة أكثر فكسر حدود المكان يجعل القضيّة غير مقيّدة ببلد معيّن أو أسرة محدّدة بل هي تصلح لمجتمع أوسع وربما أبعد وهو ما يمكنها من الطابع الإنساني كما أن تغييب الحدود الزمانية يجعل القضيّة "قديمة متجدّدة" بتجدد ظروفها وملابساتها غير أن كيفية التعامل معها هي التي تتغيّر من جيل إلى جيل ومن مجتمع إلى آخر. حتّى أسماء الشخصيات مسكوت عنها لنفس الأسباب.
القضية الأولى
العلاقات غير الشرعية وما يترتّبُ عنها.هذه القضيّة رأيْتُ أنّها أم القضايا، فهي مبئّرة لكل ما سيطرح من إشكاليات سعتْ الروائيّة شادية ڤاسمي إلى معالجتها. الإنجاب خارج إطار الزواج وما يترتّب عنه. الملاحظ أن هذه التيمة الأولى مألوفة في الأدب العربي تتكرّر بتكرّر الليل والنهار لكنّ الجديد الذي سيجعلها مميزة هو طريقة الروائيّة في معالجتها. أخ الزوج أعزب ومتورّط في الخطيئة وشريكته فيها طفلة / قاصر ابنة الستة عشرَ ربيعًا. فما العمل؟السائد في مثل هذه الحالات أن يتنصّلَ الرّجل من المسؤوليّة وهو عادي فهو الأقوى والمجتمع الذكوري يخوّله من ذلك، والفضيحة لن تمسّه بشيء فهو رجل. قضيّة معقّدة. فالفتاة قاصر وطفل الزنا في الطريق والدين قالها صراحة "الابن للفراش وللعاهر الحجر"، ستنصب المقصلة لشرف الفتاة إن جاء هذا الطفل إلى الوجود. وستتعدّد السيناريوهات. أمام هذه الطفلة طرق كثيرة ومتشعّبة ومما سيزيدها صعوبة سن الفتاة:إما أن تجهض وتسقط الجنين وهذاـــ إلى جانب الخطورة على حياة الأم لصغر سنهاـــ حرام شرعًا باعتباره قتل نفس بغير ذنب أو فساد في الأرض وممنوع قانونا في بعض البلدان. كما أنّ أمام هذه الأمّ / الطفلة إمكانيّة أخرى وهي أن تلده ثمّ تتخلّص منه في مكان "ما" دون أن يراها أحد كما فعلت الكثيراتُ قبلها وهنا ستضيف إلى جريمة الزنا جريمة القتل العمد برمْي هذا الطفل والتخلّي عنه وإهماله وهولا حول له ولا ذنب. كما أنّها يمكن أن تتنازل عنه لدى المستشفى أو المصحة التي تنجبه بين جدرانها في كامل السرّيّة وبهذا التصرف ستكون قد حمت نفسها من الفضيحة وحمت الطفل من الموت لكنها لم تحْمِ المجتمع من جريمة أخرى وهي الزواج من المحارم، من يدري قد يلتقي هذا المولود بأخت له أوتلتقي المولودة بأخ لها ويقع المحظور. أما إذا قرّرت إنجابه والاحتفاظ به ــ وهو نادر ــ فهي ستكون مضغة في الأفواه ويكون الطفل منعوتا بوصمة "اللقيط" طول العمر فماهو الحل الذي طرحته الأديبة شادية القاسمي لهذه القضيّة؟ وهل سيكون جذريّا؟
العقْمُ... وما يترتّبُ عنه من قضايا.
الولادة خارج إطار الزواج كما أشرت قضيّة مألوفة إن لم أقل مستهلكة لكن الروائيّة شادية القاسمي تناولتها من منظور آخر فأعطت روحا جديدة وضخّت فيها من الطرافة ما يشدّ القارئ ويشوّقه.هيّأت الروائيّة الحلّ المناسب لها وهو" التستّر عليها" واحتوائها ضمن إطار العائلة في سرّيّة كاملة. أشعرتْنا الساردة بحاجتها إلى الأمومة ككلّ أنثى طبيعية لكنها اعترفت بأنها تعلم أنها عاقر وحبها لزوجها غفر لها ــ حسب تقديرها ــ كتمان السر الذي يعتبر عملية غش إذ كان عليها أن تعلمه وهو يقرّر عن طواعيّة ورضا لكنها فضلت الصمت ولعل ذلك أنانيّة منها كما ذكرتْ ذلك.زوجة محبّة ولكنها عاقر يعني لا يمكنها أن تستثمر أنوثتها ولن يتسنّى لها توظيف جسدها في أشرف وظيفة وهي الحمل والإنجاب/ الأمومة.والعقم شأنه شأن أي قضية أخرى في المجتمعات الذكورية تحاسبُ عليه الزوجة دون الزوج، بل عندما يُكتشف أن الرجل هو العاقر تخفى هذه الحقيقة وإن لزم الأمر تزوير التحاليل الطبية لأنّ مجتمعنا الشرقي يعتبر العقم "عيْبا" لصيقا بالمرأة دون الرجل، وهو في الحقيقة ليس مرضا ولا عيبا ولا جريمة. العقم حالة قد يعيشها الرجل أو المرأة. ولعلّ بطلة النص وأنّها مدركة ما ينتظرها إن علمتْ الأسرة بذلك من "عقاب"، نعم عقاب، تعاقبُ العاقر والمرأة التي تنجب البنات في مجتمعاتنا العربية ذات العقلية الذكورية المتسلطة بالطلاق والرفض من المجتمع الذكوري، لهذا سمحت لنفسها بالصمت والتمثيل بأنّ الإنجاب تأخّر لا غير، ثمّ التمعت في سمائها أضواء" الحل" الساطعة. أخ زوجها ورفيقته وهذا الطفل / الفضيحة. تم الاتفاق بين الأطراف الأربعة بتبنّي الطفل وكتمان السرّ. فكان العقم حلّا يسترُ فضيحة الإنجاب خارج إطار الزواج كما كانت هذه الوضعيّة الخارجة عن القانون والشرع حلّا لعقم هذه الزوجة المحبّة لزوجها الخدومة لعائلته المحترمة لكل أفراد الأسرة المتعطّشة للأمومة.هكذا كان الخلاصُ مضاعفا وكان الارتياحُ مزدوجا. لكن كيف ستسير الأحداثُ وهل ستستقرّ الساردة نفسيّا واجتماعيّا ووجدانيّا؟ بينما كانتْ الساردة تشبع أمومتها وتحاول أن ترسّخ قدمها في عائلة زوجها كان الطفلُ ينمو وتكبُرُ السعادة في قلوب أفراد الأسرة وخاصّة أمه بالتبنّي...الإنسانُ أنانيٌّ بالطبع.الأمّ اليولوجيّة لهذا الطفل " الشرعي" تزوجت حبيبها وأنعم الله عليها بدل الطفل بثلاثة أبناء لكنها لم تكتفِ بما لديْها وامتدّ حبُّ التملّك والأنانيّة والغيرة إلى المرأة التي سترتها وحمتْها من الفضيحة فعرّتها وكشفتْ سرّها معترفة بما كان بين الأربعة من اتفاق وطالبتْ باسترجاع ابنها دون خوف من الفضيحة الآن وقد صارت " كنّة " أسرة معروفة.اشتهتْ الأمّ "البيولوجية" لهذا الطفل أن تزعزع سكينة أسرة سلفها التي لم تكن تطلب سوى طفل يملأ عليها الفراغ ويخفّف قسوة الوحدة في هذه الحياة.تطرح الكاتبة من خلال هذه الوضعية الجديدة قضية تغيب عن الأسر المتبنّية أثناء استكمال المعاملات لجعل الطفل بالتبنّي ابنا قانونيّا لها وهو " ماذا لو تراجعتْ الأم البيولوجية عن الاتفاقية؟ ماذا لو كشف السر ولو بعد سنوات ؟ وكم من قناة تلفزية اليوم تطرح مثل هذه القضايا وتكشف المستور والمسكوت عنه سنوات! هل هي الأم التي حنّ قلبها لطفلها وأرادتْ أن تستعيده وتضمه إلى أسرتها؟ وهل فعلا هي أم " حنّتْ لطفلها وتحرّكت فيها الأمومة أم " سلفة سلّوفة" كما يقول المثل الشعبي التونسي؟ هل من حقها أن تتراجع عن الاتفاقية التي تمت بعقد أخلاقي روحي لم يحتج إلى وثيقة مادية بعدما صار عمر سعادة تلك "الأم" ثلاث سنوات؟ يبدو أنّ الأنانيّة هي التي حرّكتها فترجمتها بالجحود والنكران لمعروف الساردة التي أنجدتْها عند الحاجة وحمت المولود من مصير مجهول وربما الموت. فجّرتْ قذيفة ناريّة أشعلتْ الأخضر واليابس في هذه الأسرة. تألّب الجميع ضدّ الأم المتبنّية وساندوا الأم البيولوجية كأنها مظلومة. لم تجد هذه الأم / العاقر سندا من أحد حتى زوجها لم يصدر له صوت وهو من البداية شبه مغيّب، مجرّد ظل يتبع الأحداث ولعل الروائيّة أرادت إخفات صوته لتبيّن أنه لا يرى المشكلة تعنيه كثيرا. ويتجدد الحرمان ليكون مضاعفا هذه المرّة، يكشف السرّ فيعرف العقم وتسلبُ من الأمومة التي حصلت عليها بالتبنّي قانونيّا و"تفردُ إفراد البعير المعبّد" كما قال طرفة بن العبد. وتعود من جديد إلى المنزلة الدونيّة وتتكتّل عليها العداوات كأنها هي المخطئة، نسُوا جريمة ابنهم وزوجته الحامل سفاحا، نسُوا أن هذه الأم / العاقر هي التي سترتْ عائلتيْن وحمت الطفل من الضياع والتشرد ومنحته النسب والشرعيّة بعدما كان مجرد لقيط. ما ذنبُ هذه الأم العاقر لتعيش هذه المأساة وجدانيا واجتماعيّا" وهل ساهمتْ في رسم معالمها؟ ماذا لو أنها صارحت خطيبها قبل الزواج؟ ماذا لو رضيت بقسمتها في حالة قبول الزوج بالوضع؟ ماذا لو صارحا العائلة بما أقدمت عليه؟هل يعتبرُ الموتُ عقابا؟يستتبُّ الأمرُ باسترجاع الأم البيولوجية ابنها فتمشي في البيت مرحا وخيلاء بلا خجل ولا ذلّ هي الآن أم لأربعة أطفال وغريمتها خالية الوفاض سقف بيتها تعرّى ستره وسرى ثلج الحزن والكآبة في الأوصال وفي العلاقة بينها وبين الجميع، تأكل الوحشة الأم / العاقر وتزهو الأخرى بخصوبتها، يجثم الصمتُ على أكتاف الساردة في حين تعزف أوركسترا الفخر والمرح في سائر البيت، يتألّب الجميع ليرموا هذه العاقر بصخرة " النبذ" واللاإنسانية. ليحدث ما لم يكن في الحسبان، يمرض الطفل حزنا لحرمانه من الأم التي ربته وأحبته وحدبتْ عليه كما لوكان من رحمها، يمرض الطفل و"يموت" لتنزل على هذه الأم العاقر صاعقة ثالثة فتنهار وتتحول إلى " العاقر الثكلى" وبهذا الحدث تجيب الروائية على الحيرة التي زرعتها في ذهن القارئ منذ العتبة الأولى للنص/ العنوان، هكذا ارتقت الساردة من مجرد زوجة عاقر وهي الصاعقة الأولى إلى أمّ سلبتْ أمومتها بعدما ظنتْ أنها عوّضت النقص وسدت الفراغ الاجتماعي والوجداني لأسرتها لتقع الطامة فتهشم ما بقي منها إذ يموتُ الطفلُ حزنا فهل تريد الروائية أن تجعل الموت عقابا للأم البيولوجية على تصرفها الحاقد والشرير؟ وإن كان ذلك كذلك ما ذنب العاقر؟ وما ذنب هذا الطفل أم أن الروائية تريد أن تذكرنا بحكمة أخلاقية تتمثل في أن الحق يعلو وأن الشرير يدفع ثمن شره ولو بعد حين؟
على سبيل الخاتمة
هذا النص القصير نسبيا يزخر بالتيمات المتنوّعة وهو ما يفتح النافذة على مصراعيْها لاستكشاف هذه الرواية كصورة متكاملة بكل قضاياها المطروحة واستكناه ما بينها من علاقات ودراسة الأسباب والنتائج.هناك مسائل أخرى عرضتها الروائية في هذا النص كالإشارة بأسلوب التلميح إلى ظاهرة الـ" المعينة المنزلية" القادمة من الأرياف وما تتعرض إليه من استغلال مختلف الأنواع ومتفاوت الخطورة كما أنها أرادت أن تكشف ما ينمو في وجدان الكثيرين من مشاعر الحقد والأنانيّة والجحود والغدر. فمثل هذه الفتاة التي سُتِرت خطيئتُها وتنكرت لليد التي امتدت إليها بالمعروف تعيد إلى أذهاننا قصة الأخويْن اللذيْن ورد ذكرهما في القرآن الكريم، صاحب 99 نعجة يطمع في النعجة اليتيمة التي يمتلكها أخوه. لعلها الحكمة التي بنت عليها الروائية شادية القاسمي هذا المشهد المحزن والمخزي لما فيه من موت الإنسانية في قلب هذه المرأة. لكن هذا لا يعني أنّ الجميع مثلها.شادية القاسمي تتمتع بحرفية عالية المستوى في امتلاك تقنيات السرد والرسم والتصوير الباطني للشخصية ولعل هذا ما جعلها لا تقف كثيرا عند الأسماء أو الجزئيات الأخرى كالسن والملامح المادية للشخصية،هذا النص يعتبر نموذجا مصغرا من كل الرواية امتاز بالإمتاع والتشويق والصدق لذلك اكتسبت تعاطف القارئ وجدانيا وتجاوزه ذلك إلى تحريك الذهن للبحث والاستنتاج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق