أشباح الوحدة
استلقت على أريكة غرفة الجلوس
تمسك بفنجانها الوحيد.
تطبق عليه بأصابعها المرتعشة مخافة أن يسقط من يدها.
كان قد فقدَ أذنه اليسرى في آخر سقطة، حين تعثرت هي في سجاد أخرق قديم ليلحق باليمنى التي فقدها عندما ألقت به على ركن خشبي قديم.
شعرت بأنه يتعمد إخافتها بالتحديق فيها و بالتالي استفز هدوءها واخترق تلك الأنثى الساخطة العنيدة التي تسكنها منذ ما يزيد عن ستة عقود.
ترد عليه بتمتمة غير مفهومة
وبضربة مباشرة لم يتأذ منها سوى فنجانها المغلوب على أمره.
قطها "مملوك " كما أسمته هي، كان رفيق وصديق ومصغ جيد قد لقى حتفه في حادث بالخطأ.
وحتى تبقى على ذكراه قد طلبت من حِرفي في صناعة الفخّار أن يصنع لها فنجان على شكل رأس قطها " مملوك" رأس مستدير أسود منقط بالأبيض والأذنان طويلتان، هما عروة الفنجان.
كان لا يفارق يدها ملآن كان أو فارغ
تحدثه دائما ظنا منها أنه يسمعها
"لم تسلم مني" يا مملوك" حي كنت ولا حتى ميت، تسمعني وتتجاهلني مثل كل مرة.
كم مرة أقول لك أني لست المسؤولة على موتك كان حادثا
وتجهش بالبكاء".
استرخت على الأريكة مستلقية بجسم نحيل ضعيف البنية و برشفة طويلة من فنجانها، صدى آهاتها يشق صدر جدران غرفة الجلوس، لا تدري حتى إن كانت آهات أو هي صرخة تخرج من جوف بئر عميقة مهجورة في غابة منسية لا حياة فيها.
جدران يغلب عليها لون خريف تعيس كئيب ... أين تعرت كل الأشجار وشاخت وشحبت، كل الأغصان تكاد تنكسر إذا ما هبت ريح عرضية، بلون بني قريب للأسود بكل تدرجاته كأنها ألوان الاحتضار، حتى الأصفر كان ذلك الذي يدل على المرض أو الغيرة الشديدة.
غرفة مظلمة، موحشة مربعة الشكل، كأنها صندوق خردة قديم، الجدران كانت مشققة، تجاعيد هرمة من أوراق حائطية مهترئة تتدلى من فوق إلى أسفل وأخرى كأنها ندبة خدوش على خد عجوز عانقت جميع العقود
تشم رائحة الموت تتسلل من وراء تلك الجدران فيتراءى لها أعين تحدق و تكيد لها من كل الجهات كأنه كائن غريب يسكنها أو قوى شريرة تتحكم بها كأنه ... وفي لحظة شرود سوف تخترق الجدران ساحرة أو مارد لعين إن غفلت عن المراقبة.
تجول بنظرها تدقق بكل شاردة و ورادة فيخيل لها أن تلك العيون لوجه مشوه وشعر طويل مجعد منكوش سينقضّ عليها في أي لحظة.
و سقف تكاد تلمسه بأطراف أصابعك كأنه يطبق على ما تبقى من أنفاس متعبة أرهقها الشهيق والزفير باتت تستعين بالآلات حتى تفتك بعض من الحياة حقها في الأوكسجين.
تروم الي راحة، بعد سفرة طويلة جال خلالها عقلها أطراف حديث نفس مطولة، بين سؤال وجواب صراع شرس أحدث شرود وتنافر.
كيف لا وهي ونفسها ليست على وفاق منذ أن هجرها أبناءها وتوفى زوجها واصبحت كثيرة النسيان والهذيان.
هالة بن عامر تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق