..حتى لا تكون أشعارنا راشحة بالمرارة،طافحة بالحزن ومتخَمة بالمواجع
-هذا المقال مهدَى حصريا إلى الشعراء التونسيين: د. طاهر مشي،جلال باباي-وفائزة بنمسعود..اجلالا واكبارا لإبداعاتهم الخلاقة في الحقل الشعري..تونسيا وعربيا..
كيف يمكن ايجاد مصالحة بين الإنسان والفرح، في خضم التداعيات المؤلمة التي يشهدها الوطن العربي في محنته "الإغريقية".. ؟
وكيف يستطيع الشاعر صياغة هموم وتطلعات أمته شعريا ؟
أليس بإمكان الشاعر الآن..وهنا تطريز المشهد الشعري بزلازل من الأسئلة الحارقة والمقلقة لهذا الواقع الممجوج والمتخم قلقا وألما، وذلك عبر لغة شعرية صافية تعتمد الأصالة والإضافة، وتنأى عن المحاباة والوصولية..تصالح ذهنية المتلقي وترتقي بحسه في هدأة الطريق إلى عوالم النص؟
ألسنا إذا وضع يتسم بالقتامة والإنكسار، أفرزته ظروف تاريخية ما فتئت تمر بها هذه الأمة منذ أمد بعيد، وقد شهدت خلالها متغيرات حثيثة، في القيم الرئيسية لمسيرة التاريخ الإجتماعي-الثقافي للعرب،بما من شأنه أن يوظف الأدب،توظيفا واعيا بجدلية الصراع بين الكائن وما يجب أن يكون، ويجعله يقاوم التيار الكاسح، ويتحدى الأمر الواقع، ليصوغه في شكل جدل بين الهزيمة والمقاومة.. !
ألم يواجه أدباء العالم في الحربين الكونيتين الأولى والثانية، وما استجد من حروب صغيرة هنا وهناك،ظروفا لا تقل وجعا عن التي نحن فيها،غير أنهم سَمَوا بأفكارهم إلى مستوى التحدي، فظهر أدب المقاومة ضد النازي،وهو الأدب الأمريكي و-السوفياتي-والفرنسي،بين العشرينات والخمسينات من القرن الماضي،وبعد أن خلقت الحربان آثارا حضارية قاسية،وآلاما نفسية جريحة وموجعة،انبجست الموجة الوجودية في أدب الغرب،كاحتجاج وتمرد بارزَين..؟
أفلم يكن من الأحرى بنا نحن العرب،الذين خضنا حربا مهزومة عام 67 وثانية بديلة عام 73 وأخرى أهلية عام 75، علاوة على مآسي أخرى، وتراكمات تاريخية مؤلمة، أفضت إلى إنتقاضة جاسرة، مازال يخوضها أطفال فلسطين بالنيابة عنا في أرجاء الوطن السليب والمستَلَب، أن يكون أدبنا موسوما بالرفض والمقاومة، ويؤسس في مضمونه للآتي في موكب الآتي الجليل.؟
أليس للنص الشعري دور ريادي في تفعيل واقعنا، والإرتقاء بحسنا الإبداعي إلى مراتب البلاغة والإبداع، بما يمنحنا سخاء في الرؤيا يتجاوز الذاكرة الحبلى، والحلم العذري، حس المأساة في خاتمة المطاف،وهي تصاغ في حوار مجلجل مع الجيل الشعري الرائد؟!
إن تجاوب الأدب مع كل هذه التداعيات،وتحويلها لمادة للإنتاج،من شأنه أن يقوي الشعور بالوحدة، وبالرابطة القومية،ويذكي الوضع النفسي المتلائم مع القربى،والإنتماء الواحد، والمصير المشترك،ويضعف بالتالي الشعور الإقليمي،الذي يتكوّن تلقائيا في ظل أوضاع التجزئة، ويفتح ثغرة في جدار الحدود الإقليمية..
وقد جسّد شعراء بداية النهضة العربية هذا الدور على أفضل مما يقوم به شعراؤنا اليوم، ولعل في الأبيات التالية -للرصافي-عن تونس ما يؤكّد هذا القول :
أتونس، إن في يغداد قوما***ترف قلوبهم بالوداد
ويجمعهم وإياك انتساب***إلى من خص منطقهم بضاد
فنحن على الحقيقة أهل قربى***وإن قضت السياسة بالبعاد
إن حالة التردي التي يتسم بها واقع الأمة العربية بكل أقطارها، جعلت الراهن متخما بالمواجع، تتكالب عليه قوى الشر وتتحالف فيما بينها، بهدف اجهاض نقاط الضوء الثورية،التي نجحت في تخطي تخوم الإنكسار،واستطاعت بجهد غير ملول أن تجد لها طريقا بين جدران هذا الظرف، مما حدا بهذه القوى إلى احتواء تلك النقاط المشرقة لتصفيتها نهائيا، ولإشاعة جو اليأس والإحباط والتشاؤم بين أبناء الأمة..
وفي خضم-هذا الهم النبيل-وفي ظل تداعيات الوجع العربي بكل أبعاده الدراماتيكية، يقف-الشاعر-يستبطن أبعاد هذا الهم في الواقع الخام والمادة الأدبية، يتابع نبض الهزيمة وإيقاعها المأسوي، ويؤسس في ذات الآن للإنتصار،راسما في أشعاره علامات الزمن الخائب، واعترافات الجيل الضائع، من غير أن تكون الخيبة أو الضياع عنوانا أساسيا أو محورا متعمدا، بقدر ما هو قراءة للذات الراهنة، واستحضار للذكريات الماضية، واقامة جدل موضوعي بينهما في ضوء المدى المنظور..
هذا الضوء،هو-الجانب الجمالي-الذي يصوغ الأزمنة ويقيم الحوار معها، وفق-رؤيا-جديدة تؤسس لللآتي الجليل بأفراحه المرتجاة،وتجسد التخاطب الحي بين الهزيمة والمقاومة، وهذا يعني، أن للشعر فعلا موازيا للدور السياسي والعسكري في تضميد جراح هذه الأمة، واستشراف ضوء شموسها الآتي..
ومن هنا،تكون قضية ايجاد المعادلة الصعبة بين الهموم والتطلعات،وخلق المعادلات المعبرة عنها شعريا ضمن القصيدة، احدى نقاط الإرتكاز الأساسية التي يبحث عنها الشعراء،أثناء "المكاشفة الشعرية "فحالة الإنكسار التس يشهدها الوطن العربي من ناحية، وقضية الشعب الفلسطيني من ناحية ثانية، هما قطبان متلازمان في الخطاب الشعري الحدبث.
ومن البديهي أن تكون الهوية الفلسطسنية من جهة،والأرض المحتلة من جهة ثانية،مصدرا ملهما للشعر، فتتجلى المأساة عريا بوجه عام، وفلسطينيا بوجه خاص.
وقد لا يكون الأمر مفاجئا حين ينخرط الشعراء في البحث الدامي الدؤوب، عن مواقع الضوء في زوايا الواقع العرب، لأن الرؤيا التي أفرزتها-الإنتفاضة،هي الرؤيا المضادة لواقع الهزيمة، إنها الإستيعاب التاريخي لمعاناتنا جميعا،وهي العلامة الرئيسية لأدب المقاومة في مختلف تجلياته..
هذا الأدب الذي بات عليه أن يسبح ضد التيار الكاسح، ويتحدى الأمر الواقع، بإعتباره سيصارع تيار الهزيمة، ويتجاوز بذلك واقعها المترجرج، ويبحث في أدغالها وجذورها العميقة، عن تفاصيل وأسباب هذا-الواقع-المهزوم..
ومن هنا جاز القول،أن-الإنتفاضة الفلسطينية-بالأمس..واليوم..وبإسناد من المقاومة الباسلة، بدأت تؤسس للون شعري جديد ومتجدد، يتماهى مع الواقع، ويصوغه على نحو يجلو قيمه الجمالية، ويبرز أبعاده النبيلة التي هي مطمح كل فنان أصيل.
غير أن ما نرومه،هو أن لا تكون أشعارنا راشحة بالمرارة، طافحة بالحزن ومتخمة بالمواجع، بقدر ما هي مشعة بالفرح، تجسد الإنبهار بالحياة حد الشهادة، وتؤسس لروح الإنتصار عبر لغة تستكشف كنوز البيان وخبايا البلاغة، في تاريخية اللفظ والتركيب العضوي للكلمة، فيبوح النص الشعري بما يتضمنه من مفردات إبداعية، وبما كان سرا مستغلقا على الفهم ومستساغا للأذن في ذات الآن، بما من شأنه أن يحرر رقعة واسعة من الذوق التقليدي المتحجّر، ويكتسح مواقع الكلاسيكية عبر رؤيا تتفاعل مع عالم القصيدة الداخلي في ارتباط وثيق بالثورة الحضارية، وأن يتوصل في النهاية إلى ايجاد معادلات معبرة عن همومنا شعريا، بما يحقق تلك المعادلة الصعبة التي تربط، دون قسر، بين الذات والموضوع بصورة شعرية واعية..
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق