الاثنين، 27 ديسمبر 2021

* قراءة نقدية في لوحة فنية تشكيلية: "فسيفساء"، بعنوان:(الحرقة)، للفنان طيب زيود / تونس. بقلم الأديبة حبيبة المحرزي تونس.

 * قراءة نقدية في لوحة فنية تشكيلية: "فسيفساء"، بعنوان:(الحرقة)، للفنان طيب زيود / تونس.

كان فن الفسيفساء عند الرومان تطوراً لفن تصوير المناظر الطبيعية منذ آلاف السنين، لولعهم بالطبيعية التي تشير إلى طول العمر وتواصل الحياة حتى بعد الممات، وترسيخ التجربة الحياتية عن طريق رسوم وتصاوير تغطي جدران المقابر كوثائق تحويل أعمال الإنسان وحرفته التي ميزته، فرسموا مناظر الحصاد والصيد والأفراح، وهي فكرة مقتبسة من الفنون المصرية القديمة، وقد انتشر فن الفسيفساء مع تطور الحضارة الرومانية إيماناً منهم بأن الفنون هي مرآة الشعوب ومخلدة الحضارات، وما تزخر به من تجارب متنوعة مختلفة توثق للماضي، وتفتح المجال للمستقبل ليكون أفضل.
لكن "الحرقة" لوحة لم توثق لعمل بطولي أو للقطة من الحياة اليومية بأبعادها الإنسانية، بقدر ما وثقت لحظة انعدام الحياة وتوقف المعاناة وتبخر حلم الشباب بين طيات الأمواج.
من بعيد تبدو اللوحة وكأنها صورة فوتوغرافية اختطفتها عدسة فنان فطن حذر في لحظة فارقة بين الهدوء المبطن في ذهن المتلقي، والاضطراب الذي يعجن الماء بالهواء بالأشياء والأشلاء بالأنفاس... بل هي ومضة اقتنصتها عدسة المصور بهذه الحركة اللولبية العاصفة المندفعة في الفضاء. هذا الاضطراب الفجئي المندفع بقوة حركية لكتلة متوهجة بلون البشرة الآدمية، بفواتح مصفرة مغبرة، قد تكون شبيهة بشعر الشقراوات الغانيات اللواتي سلبت صورهن على الفضائيات عقول الشباب، أو هي لقطة تصور ارتفاع ذراعين أو رجلين، أو هو جسم بعضه تغرقه الدوامة المرعبة في تصادم علني بين قوى طبيعية جبارة، وبعضه يُحذف حذفاً بعنف عاصفي تضرجه الندوب القاتمة المتماهية مع الحركة الانقلابية الدائرية المندفعة من الأعماق السحيقة نحو الأعلى... أعماق تعجن بواطن الغريق بما طفا فوقها من بقايا بشرية في شكل خدوش أو سمات آدمية سوداء تختض على سطح هادر. هذه الحركة والاضطراب يجسمهما الفنان بمكعبات فسيفسائية دقيقة بترتيب مذهل، والأمر يظل ممكناً، فللطبيعة الثائرة جماليتها، لكن هذه الجمالية تصبح شريكة في إثم جناه الإنسان على الإنسان.
والفنان لم يجد خيراً من بصمة إبهام بشري بالأسود والأبيض يستقر وسط الدوامة، بإغراق في السواد الذي ينتشر على السطح المضطرب المرعوب... هو جثث أو أمتعة تلف وتدور بمشيئة الدوامة، والفنان لا يدين العاصفة، ولا الأعماق، بقدر ما يدين ويقرع من غبنوا الشباب واليافعين حقهم في حياة كريمة طيبة.
بصمة بعثت من رحم الثورة العاصفة، لتظل بصمة إدانة في وجه من أعدموهم حقهم في العيش الكريم في مواطنهم المضرجة بالفساد... شباب لم يسعفهم الموت حتى بقبر يضم رفاتهم، ويكون عنواناً يحدد نهاية عينية معلومة.
لوحة "الحرقة" لوحة فسيفسائية توثق لحظة الفاجعة، ولحظة تكسر حياة على جدران الوهم الشبيه بثورة العاصفة التي تكفلت بتحديد النهايات لشباب جازفوا، ومازالوا يحاولون الهجرة غير الشرعية التي تنامت إثر الثورات وما تلاها من تفاقم للخراب والدمار وتهميش الشباب الذي شوشت فكره الفضائيات، وزينت له أوروبا بشقراواتها وبذخ العيش فيها، وبات يقتنص الفرص ليكون طعماً للحيتان والقروش، أو سجيناً مكبلاً بالسلاسل في سجون على الحدود الأوروبية.
لوحة فسيفسائية بمشهدية تصويرية عالية الجودة، والفنان، وإن أحسن التعبير بهذه اللقطة، فقد أشرك معه المتلقي كي يستعين بالذاكرة الشعبية، فتعرض قرب اللوحة هناك السوابق واللواحق التي اختطفت منها اللقطة الفارقة، فيجعل منه شريكاً في العملية الإبداعية التوثيقية، والتي حتماً ستكون مرجعاً ونقطة شاهدة على زمن "الحرقة".
حبيبة المحرزي
تونس.
Taieb zeyoud
Habiba Meherzi
Peut être une image de ‎2 personnes et ‎texte qui dit ’‎قراءة نقدية فنية في لوحة الحرقة فسيفساء تونس الناقدة حسة المحرزي الفنان طيب زيود‎’‎‎

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق