القصيدة عند الشاعر التونسي الكبير طاهر مشي عمليّة استشهاد على الورق
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أنّ القصيدة عند الشاعر التونسي الكبير طاهر مشي عمليّة استشهاد على الورق،فهذا الشاعر-دون مجاملة ولا محاباة-يقف -كرجل سلطة- بحكم قدرته على الوصول إلى الجماهير والإمساك بنبض الشارع،بلغة تتغلغل في فقر الفقير، وتتجول على عربة البائع المتجول،وتجعل نفسها في موضع آخر وردة تعبق بعطر الجمال على رموش حسناء،فالشاعر التونسي د-طاهر مشي يرفض في كل الأحوال قصيدة مثل قصيدة زهير بن أبي سلمى،القصيدة التي تعيش نصف عمرها مرتجفة الكلمات في خيمة وتخاف ساعة الخروج إلى الناس.
وهنا أقول : هناك قراءات متعددة للنص الإبداعي،ولكن حين يتعلق الأمر بشاعر له قامة شاعرنا القدير د-طاهر مشي فإن قراءته تشكل تحدياً للقارئ والناقد معاً.
وأنا من المؤمنين أن لكل نص خصوصية،تفرض على القارئ رؤيته ومنهجه الخاص في التعامل معه.واعترف أن قراءة جل قصائد طاهر مشي فرضت عليّ نوعاً من الحصار لم أستطع منه الفكاك،كان ما سيطر علي هو رؤية الشاعر للعمل الإبداعي من حيث عملية الخلق،واللغة والصورة والتجربة.ولعلي أجد دور الناقد لا يبتعد كثيراً عن رؤية والاس مارتن الذي يقول :
(فمسؤولية الناقد،هي اكتشاف أو خلق منظومة من العناصر ضمن ثقافة عصره بحيث تجعل الأدب مفهوماً.وكثيراً ما يتحتم عليه خلق البناء الضروري الذي يتم بوساطته تعليل الفوضوية “الطبيعة” للأدب،غير أنه على العكس من الكاتب التخيلي ،فهو يعمل ضمن حدود أنظمة من الكوابح الموضوعة من قبل ثقافته وغرض نشاطه.
فهو لذلك أشبه ما يكون بعامل متجول بين شتى الحرف ،حيث يعمد ببراعة إلى تطويع مجموعة متنافرة من الأشياء لحل مشكلة عملية .(ما هو النقد – والاس مارتن: مقالة ويليم ستانلي ميروين ص 90-91)
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع : هل يمكننا الدخول إلى فهم رؤية الشاعر من خلال شعره ؟ بنفس الطريقة التي يمكننا بها معرفة شخصيته من خلال شعره.
يقول ستيفن سبندر: “ولكن الشعر مسألة أخرى؛ فشخصية الشاعر هي شعره. إننا نعرف الرجل عن طريق شعره أكثر مما نعرفه عن طريق دقائق تاريخ حياته، بل إن ما يجذبنا إلى قراءة سير الشعراء والفنانين هو أننا نعرف ماذا كانوا من خلال إنتاجهم وما لم يكونوه عن طريق وقوفنا على دقائق حياتهم”. (الحياة والشاعر : ص. 65
في هذا السياق،يؤكّد الشاعر التونسي طاهر مشي أن الحياةَ داخل القصيدة غير الحياة التي يعرفها الآخرون،فالقصيدة لدى-هذا الشاعر-حياة جديدة تتعانق فيها رعشات الإحساس ونبضات القلب ونتاج العقل،وقد جسّد في بعض قصائده التي اطلعت عليها من زاوية نقدية،فكرة الزمان والإنسان وعلاقة الإنسان بالأزمنة وامتداد الهاجس المرافق للحس الإنساني،ليرسم لنا لوحات شعرية خلابة تترجم معالم الحياة في قلب وفكر الإنسان لحظة بلحظة.
وإذن؟
إنها إكراهات القصيدة إذا-نراها-،تمارس سطوتها على وجدان الشاعر،لم يعد للوعي مكان لأن اللاوعي استحوذ على أمكنة النزيف والبوح،إلهام كالسيل الجارف يحمل إلينا عبق الذات المنصهرة في صفحات الزمن،يحمل إلينا عبير فسيفساء فكرية رائعة..
تفننت قريحة الشاعر طاهر مشي في رسم قصائده الشعرية لتصير غواية البحث عن أسئلته الرابضة خلف دلالات-القصيدة-هاجسا جميلا يطارده في كل لحظة،لأنه اختار القصيدة منفى له يفر إليها من واقع مؤلم باحثا عن فوضى جديدة ولكنها أجمل من عالمه الخارجي،وألذ فراش ينام عليه ساعة الإمتزاج بالقصيدة والسفر إلى عوالم الحس الفلسفي بسريالية جميلة دون سابق إنذار.
هكذا يسافر الشاعر التونسي القدير طاهر مشي داخل ذاته ليعيش غربة أنيقة مع خلجات الذات وزخات الفكر متطلعا إلى غذ أفضل في مأمله وأمنيته.
ختاما أقول : صحيح ان طقس الكتابة،يشبه موعدا مع الغياب،قد يأتي وقد لا يأتي .قد يجيء ولا يأتي ،ولكن المبدع المجتهد ،بعد كل خطوة ناجحة،مضطر لمتابعة التقدم في الكتابة، لتحصين خطواته السابقة،وتطوير حضوره .فبعد النجاح،لا يعود التوقف الإرادي ،مُباحا ولا يجوز.
ولكن..قصائد طاهر مشي التي أبهرتني هي قصائد جماليّة(وهذا الرأي يخصني) ترتسم رؤيتها بهندسة نسقية متفاعلة الخطوط، والألوان،والإيحاءات،والظلال اللونيَّة،والإيقاعات الداخليَّة؛إذْ تتفاعل الشذرات التصويريّة فيما بينها بأنساق مؤتلفة تؤكد فنيّة القصيدة،وتنظيمها النسقي الفاعل لديه في إضفاء طابع جمالي منسق على اللوحة المشهديّة ككل،كما لو أنَّها مرسومة بريشة فنية دقيقة ترصد الأبعاد والمشاهد والرؤى بدقة متناهية للمتلقي.
وها أنا..أرفع قبعتي-بتواضع شديد-انتصارا مطلقا لخطابه الشعري الوهّاج..
(متى لقيانا)
فتك الغياب
ملامحك
وبات الحنين مشتتا
بين الماضي والأمس القريب
تفتت نبضي
قربانا
لذالك المحيى
وها أنا اليوم
أعلمك
أن الغياب بنا متربص
منذ التقينا
وما أزال لا أقوى على المسير
فأين سارت خطانا؟
وكيف تشتت نبض نجوانا؟
وبين الغياب وذكريات الأمس
بتنا في سجن
وهاهو ليلي
يسوقنا بين الثنايا
هيام
وشوق فمتى لقيانا؟
(طاهر مشي)
قد تميزت لغة شاعرنا بالشفافية والوضوح،فهي بعيدة عن لغة التعتيم والتهويم في سرف الوهم واللاوعي،تلك اللغة التي تلفها الضبابية القائمة والرمزية المبهمة،فلغته ناصعة واضحة لا غموض فيها ،وتعبر عن مضامينه بأسلوب أقرب فيه إلى التصريح المليح منه إلى التلميح،هذا يعني أن الشاعر ذو مهج تعبيري سلس،وقاموسه الشعري لا يحتاج إلى كد ذهني وبحث في تقاعير اللغة ،وأنا إذ أصرح بهذا إنما أغبط شاعرنا على الرؤى الواضحة والألفاظ المعبرة بذاتها.
ختاما أقول : يحاول هذاالشاعر القدير(طاهرمشي) أن يتحفنا-حينا-بما جادت به قريحته ، وأن يحلق بنا في خيالاته العلوية،ويصهرنا في أتون ثورته الداخلية الوطنية المعطاءة حينا آخر، ولا يسعنا إلا أن نتمنى له ديمومة الإيداع ونأمل منه المزيد،ونهمس في أذنه بألا يكرر ذاته، وان يكون دائما ودائما متجددا.
محمد المحسن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق