فَحْمٌ بَشَرِيٌّ..
***
كعادتها.. قامت قبل طلوع الفجر.. عندما صفّق الدّيك وصاح وقد خدعه البدر الوضّاح فظنّ أنّ نور الفجر قد لاح.. وأنّ الشّمس أوشكت على الشّروق..
تقلّبت في الفراش يُمنة ويسرة ثمّ تسلّلت إلى المطبخ تعدّ رقائق الخبز وتطهوها على نار حامية ثمّ تقسّمها إربًا إربًا وتعيد خَبْزهَا قبل أن تكوّرَها مع الزّيت والتّمر وتتركها على المائدة الخشبيّة حِذو طفليها اللّذيْن يَغطّان في سُبات عميق.. ليجِدا فطورَهُما جَاهزا عندَما يَستيْقِظانِ من النّوم.. ثم وضعت نصيبها في صُرّتها المعهودة التي تحملها معها كلّ يوم إلى المزرعة التي تقضي فيها يومها مقابل بعض الملاليم التي لا تغني من جوع، ولا تَفِي بالحاجَة، ولا تَقِي هذه الأمّ الكادحة من الفاقة..
في ذلك اليَوْم الأغبَر طال انغماسُها في جَنْي حَبّاتِ الطّماطم حتّى أوشكت الشّمس على المغيب.. وظلّت هناك جسَدا بلا روح ولا عقل، فالعَمل يؤرقها وتَجَبُّرُ صاحبِ الضّيْعة يُزعجُها، والخوفُ على طفليها يَشغلها..
دقّت ساعة العودة فتَناست إرهاقها وسارعت الخطوَ نحو ذلك الكوخ الحقير الذي تفنّنت في ترتيبه حتّى أصبح في شكل فيلاّ من طوب.. وما إن قاربَت على الوصول حتّى تراءى لها جَمع من النّاس في السّاحة القريبة من الكوخ.. تسلّحت بالصّبر والجَلَد لكنّ خطاها تثاقلت، وقلبها تسارعت دقّاته.. حتّى ظنّت أنّها النّهاية.. تجاسرت عن نفسها وعَلاَ نحِيبها ثمّ ما لبثت أن أطلقت رجليها للرّيح .. وأقبَلت على الحيطان تسألها.. ووعلى الحاضرين تعاتبهم:
يا للهول.. ماذا دهاكم؟ هل أنا في علم أو في حلم؟ أين أكبادي؟.. أين أولادي؟..
وفي غفلة من الجميع ألقت بنفسها في النّار ودَلفت إلى ناحية من الكوخ استَعرَ لهيبُها وأظلمت بالدّخان أركانها.. فتعالى الصّياحُ واشتدّ الصّراخ وارتفعت أصوات الحاضرين وأحدثت جَلبَة وغمغمات لم تعد تسمع بعدها شيئا..
لقد توجّهت إلى النّاحية التي ينام فيها طفلاها.. ويا لهول ما رأت.. أحمد إبنها الأصغر ذو الخمس سنوات يحتضن شقيقه الأكبر حامد في الرّكن القريب من باب الكوخ وهما متسَمّران هناك بلا حراك.. فأطلقت صيحة اهتزّت لها أركان الجحيم الملتهب.. وبينما الأمر كذلك وصل رجال الإطفاء وسارعوا إليها قبل أن تلتهمها النار وقد أخبرهم الحاضرون بما أقدمت عليه صاحبة الكوخ بعد عودتها من مزرعة المُعمّر دانيال.
تجنّدوا لإنقاذها ومن معها.. فانطلقوا إليها وسط تكبير الحاضرين ودعواتهم لهم بالتّوفيق في هذه المهمّة..
وماهي إلاّ لحظات حتى خرجوا من الزمهرير بأمّ شعثاء مشوّهة تآكلتْ أطرافها وجثتين متفحّمتين..
وكانت الفاجعة..
***
منير الصّويدي
أوت 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق