تجليات القضية الفلسطينية في قصيدة "فلسطين..هذا الكيان الذي يسكننا" للشاعر التونسي القدير طاهر مشي
قلما نری في التاريخ شعباً تعرض للإحتلال والقتل والدمار ومصادرة ممتلكاته وأراضيه وتشريد أهاليه مثل ما جرى علی شعب فلسطين من مجازر واغتصاب،وتهديم مدن وقرى ومنازل وارهاب على يد كيان عنصري سفاك سفاح.
ونحن لسنا بصدد الحديث عن جرائمه لأنها أظهر من الشمس،غير أن هذه المأساة التي تصدّعت لها القلوب وانهالت من أجلها الدموع كانت مرتعا خصبا للكتاب والشعراء داخل الأقطار العربية والإسلامية وخارجها.
وكانت تونس من أبرز الأقطار التي تأثرت بهذه القضية حتی رسم شعراؤها المفلقون المأساة بكل فصولها المؤلمة وتجلياتها الفظيعة.
وإذن
لقد مثلت القضية الفلسطينية إذا بتشكيلاتها المختلفة،ودلالاتها العميقة،وما تحمله من أبعاد إسلامية وعربية،وفكرية،مثلت مأساة للأمة العربية والإسلامية جمعاء،فكانت المنطلق الأول الذي ينطلق منه كل شاعر عربي في محاولته لاستكناه حيثيات الواقع العربي وتفاصيله،ولا شك أن القضية الفلسطينية هي عنوان كل قضية عربية و إسلامية لما فيها من حضور للذات العربية الأصيلة،وإثبات وجودها أما أطماع الآخر المغتصب.
فتنافس الشعراء في كافة الأقطار العربية لتأكيد ذواتهم العربية،واستحضارهم للواقع الفلسطيني،وفي تشكيل أعمق صورة وأدقها عن ما تمثله المأساة الفلسطينية لكل عربي ومسلم.
لقد كان وقوع المأساة الفلسطينية سنة 1948 إلى 1955 أعظم هزة لضمير الأمة العربية في تاريخها،ومساسا بكيانها،وتدنيسا لمقدساتها الإسلامية،فحركت وجود كل عربي مسلم،وتفجرت ينابيع الشعر في كل قطر عربي تضامنا مع مأساة الأمة العربية، وظهرت مئات القصائد والأشعار من أبناء فلسطين وغيرها تتناول الواقع الفلسطيني أملا في التحرر والخروج من شباك الصهيوني المغتصب، وكانت فرصة ليعيد العرب تشكيل صورة عن وجودهم داخل المجتمع، ودافعا أمام لشعراء ليجددوا في المضامين والموضوعات الشعرية.
فتردد صداها في الشعر العربي المعاصر لما أحدثته من أفكار وأخيلة،وصور إبداعية، ولوحات فنية كانت تنبع من النفس العربية،واستطاعت أن تخلق جيلا من الشعراء الذين لولا قضية فلسطين ومأساتها لما كان لهم وجود في الذاكرة الشعرية،[1] وفي رأي أغلب الدارسين أن هذه القضية كانت أكبر دافع للتطور والتجديد في الشعر، فقد منحت الأدب العربي ديوانا دمويا ضخما كانت الحروب الصليبية أولى صفحاته المشرقة، وهو لا يزال إلى الآن في تضخم وإثراء كلما زادت الملحمة الفلسطينية قوة واستمرارا.[2]
فالشاعر العربي يعيش داخل الملحمة الفلسطينية بشعره وإبداعه،ويرسم تفاصيلها وأجزائها مشحونا بالأمل والتفاؤل، محاولا تشكيل صورة للغد المنشود الذي ترنو إليه الذات العربية، مبتعدا عن الواقع ومسلماته، محلقا في عالم الأحلام، ومستحضرا نشوة الانتصار في المستقبل المشرق[3]
وكان الشاعر التونسي القدير -طاهر مشي من أبرز الشعراء التونسيين الذين تناولوا القضية الفلسطينية في قصيدة (فلسطين..هذا الكيان الذي يسكننا) والتي تجلت فيها أكثر محاور القضية الفلسطينية بأبهی الانزياحات الفنية والجمالية.
لقد حبك الشاعر قصيدته بمهارة فنية رائعة إذ شرع يصور المجد التليد والغضب العربي ليرعب به أعداءه أولاً وإيقاظ مشاعر الأمة،والعزة والثورة ثانيا، أ
أما فيما يتعلق بفنية القصيدة فقد بلغ الشاعر مبلغا عظيما في التعبير عن القضية الفلسطينية. ونجح في رسم صورها ،كما امتاز شعره بجماليات فنية عديدة أبرزها التناص التاريخي واستخدام الرموز والمفارقات والاستعارات والمجاز والتشابيه الدقيقة وشتی الأدوات البلاغية وهكذا استطاع الشاعر أن يحقق الهدف المنشود في إحداث أكبر كم ممكن من التأثير العاطفي في ذهن المتلقي العربي.
لنستمتع معا بهذه اللوحة الشعرية الرائعة التي نحتتها انامل الشاعر التوسي السامق د-طاهر مشي بحبر الروح انتصارا مطلقا لفلسطين الحبيبة :
فلسطين هذا الكيان الذي يسكننا
فِلسطين
هذي هِيَ فْلسطينُ حُلمُ عُروبةٍ
في القلب تحيا،حبُّها يَجِبُ
كُلٌّ،هَوى الأوْطانِ يجمَعُنا
بأرضٍ تُعاني الفقد تُغتَصَبُ
ترجو،تنادي العُربَ أينكُمو؟
غالوا شبابي وأقصَى الكلِّ ينتحِبُ
صهيونُ كالطّوفان زَلْزَلَ قلعَتي
بيتي غدا خيْمةً في الأرضِ تنتَصِبُ
شُهَداءُ أرضِ الطُّهرِ ريقَ دِماؤهمْ
مَنْ ذا لِذي الأقوامِ يٓعْتصبُ؟
مَنْ في ترانيم الهوى ذُكِروا
هُمْ في بلادٍ لها الأبطال تنتسِبُ
رَبّي أجِرْهُمْ يا إلَهِي مِنْ ألَمٍ
ندعو إليْكَ،الكلُّ يَحْتَسِبُ!
طاهر مشّي
وهكذا بناء على معطيات العرض السابق نستنتج أن المأساة الفلسطينية مثلت لحظة فارقة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية،وهزت وجودها أعظم هزة شهدتها في تاريخها،ولم يكن الأدب بعيدا عن هذه التحولات التي مست كيان المجتمع العربي،فكانت هذه التحولات بمثابة الضوء الأخضر الذي أتاح للعربي أن يكتشف ذاته، ويعيد ترميم جسد الأمة العربية المتهالك،والذي أنهكه تكالب أعداء الإسلام عليه.
لقد عبر الشاعر التونسي الكبير طاهر مشي في كثير من قصائده عن انتمائه العربي،ونصرته للقضية الفلسطينية،وقد أعتبر (وهذا الرأي يخصني) قصيدته "فلسطين..هذا الكيان الذي يسكننا" صرخة عالية ستخترق سجوف الصمت والرداءة أمام أي تصالح مع الكيان الصهيوني..في زمن اشاح فيه البعض منا بوجهه عن القضية المقدسة (فلسطين) بعد أن أسال لعابه بريق الذهب..
قبعتي..يا الطاهر..ياالمشي..
محمد المحسن
الهوامش :
1- أنور الجندي ــ مفكرون وأدباء من خلال أدبهم ـــ دار الإرشاد ــ ط 1 ــ ص 179 ــ 178
2-نكبة فلسطين في الشعر المغربي الحديث1 ــ مجلة دعوة الحق ــ العدد 104
3-مفيد محمد قميحة ــ الاتجاه الإنساني في الشعر العربي المعاصر ــ دار الآفاق الجديدة ــ ط1 ــ 1981 ص 101
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق