(من ذاكرة الخريف)
بقلم: عبدالكريم جماعي/ تونس.
(لم يكن يوما عاديا بالمرة..فقد بقي محفورا في ذاكرته التي أصابها في هذه السنّ بعض الوهن..يسترجع ما مرّ به بكل تفاصيله.. في وجدانه علقت كل أحداث تلك الأمسية من ايام الصيف الذي يقضيه كعادته لهوا ولعبا و مرحا في ذلك الريف النائي الجميل..فالعطلة أوشكت على النهاية..بعد ايام قليلة سيعود الى مقاعد الدراسة فهو يستعد للدخول للمعهد الثانوي بعد ان اجتاز المرحلة الاعدادية بنجاح وتم توجيهه حسب رغبته الى شعبة الآداب..كل همه انحصر في قضاء أطول فترة ممكنة مع أترابه..فالطقس الحار أصبح يلملم أطرافه مستعدا للرحيل وهم على أعتاب الخريف بكل تقلباته..!
ففي عصر ذلك اليوم..لم يكن أي شيء يوحي بحدوث أمر غير مألوف..فالوقت يمضي في مشاغل روتينية..تتراوح بين اعانة الأهل في رعي الأغنام في الصباح الباكر وفي الأماسي..أو في جمع ثمار التين ونشرها في مكان يسمى "المشرحة" وهي ليست تلك التي تتواجد في أقبية المستشفيات بل هي عبارة عن فسحة قرب الحقول فرشت باعواد "القْديم"( نوع من نبات الحلفاء) اليابسة..يتم فيها تشييح تلك الثمار و اختيار الطازجة منها لتشريحها باليدين وتركها حتى تأخذ قدرا كافيا من أشعة الشمس الوهاجة ثم جمعها وتخزينها لتكون طعاما في أيام الشتاء الطويلة..!)
لكنه في تلك العشية كان منذورا لشيء استثنائي..يأتي بغتة بلا استئذان أو أدنى توقع..مثل كل الأشياء الجميلة في حياتنا التي تظهر فجأة وتختفي في لمح البصر لكنها تترك في النفس أثرا لا يمّحي..كانت تجربة خيالية..لو حرص على التخطيط لها لما أفلح مهما اجتهد وفكّر..كأنها لمحة ربانية في لحظة شاعرية تخطف الألباب..قبس من كرم الطبيعة الفياض الساحر..ملك عليه أحاسيسه..وجعله يلتحم بطين هذه الارض في مشهد خلاب..اختلط فيه ماء الحياة وترابها بفرح الطفولة البريء..!
تلك العشية..وفي غمرة لهوه الذي لا يتوقف..طلبت منه والدته أن يبادر بالذهاب مسرعا الى الحقل البعيد وراء الجبل المحاذي لمنزلهم..لجمع ما تم نشره سابقا من ثمار التين حتى يجف..فالسماء تلبدت بالغيوم وأصبح الجو منذرا بنزول المطر..ويجب أن يسابق الزمن لانقاذ تلك "الشريحات"..غادر لوحده حاملا كيسا فارغا..في الطريق المحاذي لسفح الجبل حدثته نفسه بالعودة لحلقة اللعب مع أقرانه التي فارقها مرغما..نظر الى الأعلى حتى يتاكد من صحة كلام أمه..ضحك في سرّه من تخوفاتها..راى بعض السحب القليلة العابرة المعتادة في اواخر فصل الصيف..لكنه واصل مهمته..بلغ "المشرحة" وانهمك في ملء الكيس بالثمار الناضجة..كان يريد ان ينهي ذلك حتى يعود الى أترابه..لم يرفع بصره الى السماء الا حين باغتته قطرات من الماء..لم يحفل بها بادىء الأمر..كان حريصا على انهاء ما كلّف به..احكم غلق الكيس عندما شعر بوابل من زخات المطر تنهمر بقوة أكبر..ظنه صيبا عارضا سينقشع قريبا..فآثر ان يحمي نفسه من البلل..لجأ الى جذع نخلة قرب ساتر ترابي( طابية)..!
المطر لم يتوقف..بل ازداد قوة واندفاعا..كأنّ ابواب السماء انفتحت دفعة واحدة..رعد وبرق ورياح..غاب اللون الازرق عن السماء..اظلمت الدنيا في لحظة..اندلق الماء في عنف شديد من كل الجهات..سيول جارفة تتبع المنحدرات والأودية..منذرة بطوفان عظيم.. يا للهول..ستغمره المياه ان بقي في مكانه..يجب ان يجازف قبل ان يحاصره الطين..تحرك من مكانه وجلا.. حتى يأوي الى الجبل القريب..غاصت قدماه في الوحل..اصبح يتحسس مواطن ثابتة حجرية فيخطو فوقها..حتى ينجو..لكن الرؤية أضحت صعبة بفعل الماء المنهمر..وصل بعد جهد جهيد الى مكان مرتفع..نظر حوله..العاصفة على أشدّها وهو مبلل بالكامل..شعر بنشوة عامرة وفرحة طفولية في قلب هذه الطبيعة المكفهرة..رائحة التراب العطنة..الماء المندلق بشراسة..بياض الافق الذي يلوح في طرف الغيمة السوداء..هدير السواقي الذي يصم الآذان..رقصة الاغصان التي تذويها الرياح..عطر الارض يفوح في كل مكان..انه احتفال الطبيعة البكر..! فتح ذراعيه بسعادة..استيقظت فيه روح طفولة مغادرة..بدأ يقفز في مكانه ويصيح باعلى صوته فرحا..جذلان..ثم انخرط في موجة من الضحك حد القهقهة..كأنّ به مس من الجنون..!
عاد أدراجه وسط العاصفة..اختار ان يقطع الجبل صعودا وهبوطا حتى يصل المنزل ويبتعد عن مجرى الاودية ..وصل الى القمة بسرعة..حاول قدر المستطاع تجنب السواقي.. في الارجاء كانت تضوع روائح الإكليل والزعتر وكل النباتات البرية..اكتملت الحفلة أخيرا..أقلعت السماء وبان ضياء الشمس وارتسمت ألوان قوس قزح..غادرت الطيور أوكارها وملأت الفضاء زقزقة وصخبا..في مشهد بديع..أطل هو من فوق صخرة عالية رأى بركا من المياه في كل مكان..تغمر الحقول والمنازل والطرقات..وخرير الماء المتدفق في شلالات تخطف الأسماع و الأبصار..!)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق