طافحا بالحزن غادر وطنهُ إلي اللاّ مكان إلي كهف أعتَم تضوعُ منهُ رائحة كريهة ..
سنواتٌ عجاف مرّت و أخرى يجهلها تلوحُ له من بعيد ، تدغدغهُ رائحةُ كفّ أمّه الحاني و هي توقظهُ علي صوت “فيروز “ حتّي تعدُّ لهُ قهوة الصّباح و الخبز المحمّص التّي عركتهُ بدمع العين ، تطالعهُ حكايا الجدّات و كأنّها نقوش سوماريّة فوق حنايا الرّوح الغافية في أعطاف الذاكرة.
افترّ ثغرهُ باسمًا و استقرّت في مقلتيه دمعة عنيدة أبت النزول ، عَبَر طفولتهُ و سنوات شبابه الموغلة في التمرّد تصفّح ذكرياتهُ مع رفاق العمر و انعطفَ إلي تلك الحبيبة التّي استقرّت في سويداء القلب .
ثمّة حياةٌ أخرى تنتظره، حياةٌ تغيبُ فيها الشّمس و تغشاها الوحدة و الصّقيع ، بدا و كأنّه هاربا من معاقل التّاريخ من زمن آخر يوارى هلاكهُ و بصمةُ الأيادي فوق بقايا جثّته ، كان يستبقُ الرّيح هاربا من صوت المدافع و نحيب الأمّهات و دمع طفل فقد آخر سند له ذات حربٍ ، التفتَ إلتفاتته الأخيرة إلي وطن مريض اغتصبهُ الغزاة و خابت فيه كلّ الظنون بعد أن اقتلع روحهُ و رمى به كجيفة إلي الشّتات حيثُ يضيعُ العمرُ ركضا وراء حفنةٍ من الأورووات ، جريا وراء لقمة عيش مغمّسة بالذلّ - قيل له أنّها كريمة -
كان يسأل الرائح و الغادي عن لون سماء بلادهِ
“ أمازالت زرقاء علي عهدها !؟”
عن طعم الماء ، عن سبائك الشّمس الطافحة بالأمل ، عن بيادرِ القمح الحُبلى ، عن رائحة الياسمين ، عن حبيبته ..
كان ينكسر ألف مرّة و ألف أخرى و هو يتضوّر شوقا ، و كثيرا ما كان يصهلُ بداخله صوتٌ
“ بلى أنا مشتاااقٌ و عندي لوعةٌ ..”
و سريعا كان يلملم ما تبقّي منه و يدفن جذوة اشتياقه تحت ركام رماد السّجائر كلّ ليلةٍ و بين قطرات نبيذ تفرّ حزينة من كأس تلضّى بين كفّيه المثقبتينِ ، و تلكَ الرّيحُ الخئون تعصف بهِ ..
درصاف العبيدي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق