الجمعة، 5 نوفمبر 2021

تجليات قصيدة الومضة..في شعر الشاعر التونسي القدير جلال باباي بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 تجليات قصيدة الومضة..في شعر الشاعر التونسي القدير جلال باباي

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ القصيدة الومضة تعد نمطا جديدا من أنماط القصيدة العربية،فهي قصيدة النضج والاكتمال؛لأنها القصيدة التي تستفز عقل المتلقي وفكره،وهي تُبنى في الغالب على عدد محدود جدا من الكلمات،وسطور بسيطة مختزلة ومختصرة،لكنها مفتوحة على عالمٍ مترامٍ من التأويل والتحليل والشرح..
جاء في «لسان العرب» أن الومضة لغةً من وَمَضَ البرقَ وهي قصيدة البيت الواحد،لها تعريفات كثيرة تلتقي كلها في الإيجاز والتكثيف.جرّب كتابتها شعراء وشاعرات نجح بعضهم في كتابتها بتمكّن،واعتبرها آخرون مجرد تجربة في كتابة نوع جديد بالنسبة له على الاقل.وبين إتقان اللعبة واستسهالها تبقى قصيدة الومضة عصية على من لم يصل إلى حدود الإبداع الشعري.
قصيدة التكثيف: يمكن أن نسميها(قصيدة الومضة) قصيدة التكثيف،أو المركب الصعب،هي أسهل ما تكون كتابة وأصعب ما تكون ملامسة لجوهر التكثيف الشعري.يعدها البعض سهلة بسيطة،ويراها آخرون صعبة،بل لتكاد تكون معجزة.الكثيرون يكتبونها،ولكن القليلين من يلامسون جوهرها النقي،الذي يصح أن نقول عنه إنه ومضة شعرية،لأن مصادر الجمال الفني في هذا النوع الأدبي ينبع بالدرجة الأولى من جدة الموضوع والقدرة الإيحائية والصدمة المتولدة عبر تشكيل الثورة الفنية المصاحبة،وكل ذلك منسكب بأسلوب لا يلامس المباشر،ولا يماشي المعتاد..
واليوم..مازال السؤال-اليوم-مستمرا رغم اختلاف الرؤى الشعرية بين الشعراء،إلا أن اللحظة الشعرية تجمعهم بهاجسها المشترك،هذه اللحظة المفتوحة والمشرعة على العالم،تضيف أحياناً الجديد للمشهد الشعري،وترسم أبجدية إبداعية تزيح الاحتباس الإبداعي وتنتشله من تحت ركام الارتهان والتقييد،ليكون الشعر لكل الناس في إشراقات إبداعية تلامس الوجدان وتدغدغ المشاعر..
ما أريد أن أقول؟
من الجدير بالذكر أن أؤكّد على أن الذين يتصدون لكتابة هذه القصيدة(الومضة/التوقيعة) يجب أن يتخرجوا أولا من كل المدارس الشعرية المختلفة قديمها وحديثها،بدءا من المدرسة العمودية وحتى ما يسمى الآن بقصيدة النثر،وللحق أؤكد أن الشاعر التونسي الخلاّق جلال باباي قد تصدى لكتابة هذا النوع من الشعر ببراعة واقتدار-بمنأى عن المجاملة والمحاباة-إذ تحتل قصيدة الومضة مساحة لابأس بها،من تجربته الإبداعية المتميّزة منذ بداية تجربته الكتابية الأولى،سواء أكان ذلك من خلال ميل نصوصه -في الأصل -إلى التكثيف،إلى جانب وجود نصوص متراوحة من حيث الطول:متوسطة،أوطويلة..إلخ
ويمكن النظر،إلى قصيدة الومضة،لدى الشاعر جلال باباي،ضمن هذا الإطار- تحديداً -حيث إن كتابتها تأتي متكئة على إرث خاص،من التجربة،فهي لا تأتي مجرَّد طفرة،بل إنها نتاج رؤية واضحة للحياة،والفنِّ،كما أنها تجيء من خلال إدراك مسبَّق،من قبل الناص لوظيفة النص،مادام هكذا نص،يعدُّ الأصعب في تجربة الشاعر المتمكن،حيث لهذا النص أهميته بالنسبة إلى المرسل والمرسَل إليه،في آن،
يقول -جلال-في نص:” أنا متعَب..حد الوَجَع”أرهقتني أقدامي..ارتديت آلامي.. ثمٌ نعيت المطر قبل مرور الغمام .."
تأتي الجملة الشعرية المتشحة بالزي الفني بعد الصورة الذهنية،وأبرز ما يميزها التكثيف في اللغة،والتسلسل في السرد الشعري وصولاً إلى لحظة الذروة والإدهاش فتكون رسالة الشاعر (جلال باباي) ذات سمة انفعالية مولدة للوظيفة الإنتباهية لدى المتلقي.
إن الإنسجام بين محوري الإختيار والتأليف،يكشف شعرية خطاب التوقيعة.وهو خطاب يضج بالثنائيات الضدية،والجمل المحولة من الصور الذهنية إلى الصور الخطية المنفية والمؤكدة.فجدلية الحياة لا تكون إلا من خلال ثنائيات الممكن والمستحيل،الرغبة والخوف..فالومضة شكل من أشكال الإنزياح الذي يباغت المتلقي ويخيب أفق انتظاره.فاللامنتَظَر هو تلك التركيبة الأسلوبية المتميزة القائمة على مصاحبة لغوية غير عادية.والكتابة خطاب لا يمكن أن يتمرد دون وجود الآخرين.وهذا القلق يجعل الشاعر يمدّ يده إلى الآخرين محترقاً بالجمر،وقابضاً عليه.ولعل أهم ما يخرج به قارئ توقيعات -جلال باباي-أنها تركّز على رد فعل قارئها،لتصل به إلى مرحلة القارئ المثالي الذي يشكل جملة قراءات ناجمة عن قدرة تأويلية لديه،محاولاً إبراز الوظيفة الأسلوبية “الومضة” التي تظهر أدق تشعبات الفكر.
“ما ادراني باقتراب هذا الدخيل!
ما الذي مرٌغ قدمي في هذا الطين !
سوى الفوضى وسيل من أسئلة حارقة…
..أعدو بنصف الجسد
وأصابعي تلهو بها تلك الرياح الموسمية
ساخنا اقتفي فوق الرماد خطى الهدهد
مثل عاشق قديم اجترٌ عزلتي
أنتبذ صحبة آخر المتصوفة
أهزوجة الخطاف الماردة..
ترتبك يسراي وأتهاوى أمنية طائرة
أقرب من ورقة التوت الأخيرة .” (جلال باباي)
إن الهاجس المعرفي،لدى الشاعر،يترجم بسلاسة،على امتداد شريط النص،لاسيما أن هذه الترجمة لا تجيء حرفية،وإنما في إطار يتم فيه التزاوج بين الجمالي والمعرفي، وهي خصيصة،تسجل للعمل الإبداعي مكانته،لأنها تأتي كنتيجة لوعي عال،في كلا المجالين:الجمالي،والرؤيوي،
يقول الشاعر-جلال- في نص:“أوكفانغو”*...بركة ماء وزاوية صلاتي الاخيرة“أوكفانغو”*…بركة ماء وزاوية صلاتي الاخيرة
“هي سحابة ماء شحيحة
عابرة لا تأبه هذا الامتداد
تروي الشجيرات وجزيرة معزولة
هو النهر نفسه أمعن في التقدٌم
صامتا …كعادته ينحت مجراه المتقادم
“اوكفانغو”.. درب الطيور المهاجرة
خبير جديد بأحزاني الموسمية
للماء ساقية وبوصلة
لفرحي مولد نسيانولجراحي نار حطب مجلجلة
يلزمني بالقوٌة خيمة احتمي بها
من رياح الشمال
ازرعها عند الوادي زاوية صلاتي الأخيرة.”
ختاما،أؤكّد أن من يجرّب في أي جنس أدبي عليه أن يتمتّع بتجربة متكاملة وغنية،تخولّه تجاوز المرحلة الإبداعية،إلى آفاق التجديد..
وهذا ما حدث في حالة الشاعر التونسي جلال باباي مثلاً،وتجربته الشعرية الغنية التي لم تنفصل عن حقيقة امتلاك الشاعر لرؤيا فلسفية متكاملة،مكّنته من التجريب في نموذج القصيدة الومضة بنماذج متألقة تسجَّل له.
بعد هذه الدراسة الخاطفة ألا يمكن القول إن نمط قصيدة الومضة هو أسلوب حداثي ليس إلا..؟
أترك للقارئ حرية التفاعل
محمد المحسن
*أوكافانغو يعد رابع أكبر أنهار جنوب القارة الأفريقية،يبلغ طوله نحو 1600 كم ينبع من انغولا شمالا ويتجه جنوبا محاذيا جزئيا الحدود مع ناميبيا ،وينتهى في بوتسوانا حيث يشكل مستنقعات اوكافنغو المليئة بمختلف مظاهر الحياة البرية وحياة السفاري.وقد أبدع الشاعر جلال باباي في اختيار-هذا النهر-كعنوان لقصيدته المشار إليها أعلاه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق