الأربعاء، 13 سبتمبر 2023

قراءة فنية في قصيدة الشاعرة التونسية منية عفلي“تراتيل حرف" بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 قراءة فنية في قصيدة الشاعرة التونسية منية عفلي“تراتيل حرف"


تصدير : الشعر خطاب يتجاوز حدود الذات الضيّقة،ليعبّر عن هموم الجماعة قبل أن يصوغ أوجاع الإنسان في المطلق…


ليست سهلة على الإطلاق مهمة الغوص في معاني قصائد الشاعرة التونسية المتألقة:منية عفلي فهي لاتكتب لمن يظن أن ظاهر النص وحده كفيلا بأن يجعله متذوقا وقارئا عاشقا لما تنثره من قصيد..فلابد لمن يريد بلوغ مرتبة التآلف والإنسجام مع نصوصها التي تتسم بالقوة من أن يتسلح بمهارة غواص عليم بفن تأويل الرؤى الأدبية التي ترفض أن تكون مجرد جمل عابرة بين رواق القول الشعري..

ببراعة وقداسة تتعامل شاعرتنا مع فن تمرير الرسائل وكأنها برديات كنوز ثمينة،لإيمانها الأكيد أن للشعر كرامة لاتقبل أن ينتقص من قدرها،عزيز الغاية صانع مجد وحياة وليس وسلية ترفيه وتسلية،فهو رمز الهوية وهو لغة الوجدان،وتاريخ الإنسانية..

لذلك نلحظ وبوضوح ومن خلال تتبعنا لتجربتها الشعرية المشهودة،ترفعها عن المواضيع المستهلكة التي تستهوي الكثير من الشاعرات،وعامة القراء الذين ينأون بأنفسهم عن كل خطاب مسؤول يحتاج عمقا وإنصاتا شديدا لمعاني الحياة.. 

وقد استطاعت الشاعرة التونسية القديرة منية عفلي أن تحقق التوازن النفسي اللغوي وفق صيغة الحاضر الغائب حيث بقى الانزياح يثبت الاستعارة مع البقاء على حركة الصورة الشعرية المتنقلة،وهذا جعل الصورة الشعرية مركبة على قدر المشاعر النفسية داخل النص.أي أن بؤرة النص بقيت تشع منها وتنسق شتات الرؤى..

قصيدتها التي بين يدي والمعنونة ب”تراتيل حرف ”عميقة ومدهشة وبإيقاع لغوي تصويري يداعب الذائقة الفنية للمتلقي..

وأنا أهم بالكتابة عن القصيدة المتفردة (تراتيل حرف) لهذه للشاعرة الشابة (منية عفلي) لم أخطط كثيرا لما سأقوله عنها،فلست من عشاق الاوراق المسودة،سواء تعلق الأمر بقراءة كهذه او قصيدة او نص قصصي،مسوداتي داخل رأسي،وقلمي غربال افكاري،وطرقي في الحديث نفعية القصد،أكره اجترار الأحاديث،وأنأى بنفسي عن الغموض،وكثرة الاستشهادات،ولقد أعلنت هذا مرارا فيما سبق وكتبته،فالغاية عندي تقريب النصوص وتدليلها من عامة القراء،ولست أضع نفسي موضع الإنابة عن أحد،ولا ألزم قلمي بأكثر مما يطيق،ولا أرغمه على تقليد غيري،إنما أدندن حول النصوص التي تستفزني،بما أعلم وما أراه مجديا،حتى أنني لا أتخير بين طول وقصر ما سأكتبه،فإن النص الأصلي هو من يمنح أسباب الحديث،فلا يكون التوقف إلا بإحساس خالص بالكفاية،ورب جملة واحدة يتفجر من خلالها مجلد عملاق،ومجلد عملاق تعصره فلا تخرج منه إلا بجملة،كما أن طريقة التقسيم الشكلاني الثابت للدراسة لاتوافق رؤيتي،لاعتقادي أنها ترغم النص الاصلي على الخضوع إلى قوالب،منها ما يؤدي إلى التكرار ومنها ما يفرض السكوت عن أمر ما يظلمه السكوت عنه،كما أن النصوص الأدبية حين تخضع لموازين وترسيمات شكلية تعاني تباينا في توهج النص يختلف بين القوة والضعف عاطفيا، فإذا الحشو شبه مفروض حتى وإن تم المعنى،فيكون وجوب الالتزام بالشكل المرسوم مسبقا،مكلفا على حساب نفس المبدع ،فيأتي بما يبدو اضافة لاطائل من ورائها،فيكون فعل التمديد او التقليص ظالما للقول مؤذيا للإحساس،وماينطبق على الإبداع ينطبق على النقد،فكلاهما أدب ومن شروطهما جمال العبارة وجدية الخطاب،ولا ألزم أحدا بهذا،بيد أني مصر أنه إذا قال بيت القصيد كل شيء،كان كافيا للإستدلال على قصدية النص أو حتى فنيته، بيد أن هذه الأخيرة في غالب الوقت تتطلب فعلا نوعا من التتبع والدراسة الكلية للإبداع، خاصة فيما يتعلق باللغة والتجنيس والشكل..

وإذن؟

الكلمة الشعرية إذا،ليست مجموعة حروف مجموعة مع بعضها البعض لتشكل كلمة ؛إنها مجموعة من الأرواح المتشابكة تبعث فينا الروح و الثورة .‏

إن الكلمة الشعرية-دوما في تقديري-كالينابيع التي تتفجر في سطح الارض،تتشكل وتتخمر عبر سنين طويلة ثم تشق وجودها الى حيز الوجود .‏

والشاعرة التونسية المتميزة -منية عفلي-التي تقف أمام ذاتها،وتحاول الكشف عن القيم النبيلة في الانسان باستخدام لغة لها اتجاهان : واحد للاشارة،والآخر للتعبير عن انفعالها بما حولها.وإذا صحت المقابلة،فإننا أمام صورة فنية تحتم الالتفات إليها والتمعن فيها،كمثل ما تحتم ذلك الأسئلة في الرياضيات والفيزياء وسواهما من العلوم بمعنى آخر،فإنه يجب علينا إذا ما رغبنا في تحليل هذه القصيدة،تقديم تحليل شامل يوجب البحث عن الانسجام بين أجزائها جميعها،دلاليا وتركيبيا وجماليا،وذلك لاكتشاف المعنى الحقيقي ومعرفة آلية تمظهره في اللغة الشعرية..

و قبل أن أنهي هذه القراءة خلف كلمات”تراتيل حرف"لا بد أن أشير الى أن الشعر هو عمل لغوي بالأساس و من لا يكون له حس مرهف باللغة و عشق لها،لا يمكن أن يتعاطى فعل الكتابة و الشاعرة منية عفلي تسعى دوما الى الإنفتاح على أفاق تعبيرية جديدة تفصح من خلالها عن تجربتها الإبداعية و تقول غائر مشاعرها بأناقة لغوية لافتة .

لنستمتع بهذه القصيدة التي تحمل إمضاءها:

تراتِـيـلُ حَـــرْفٍ

أيــا مـيـمًا جَــرَتْ بـالـسّحْرِ ألْـوانـي 

فـكـانـتْ لــوْحـةً تــزْهُـو بـوجْـداني

تَـعـالـيْ عـانِـقي روحــي وضُـمّـيني 

دَعـــي الأحْـــلامَ شـادِيَـةً بـألـحاني

خُـذيني فـي الـدّجَى بَدْرا لكَيْ أبْدو  

سَــنـاءً فـــي رُؤى عَـيْـنَـيْهِ ألْـقـانـي

أُناجي الحَرْفَ مِلءَ الوَجْدِ في أُنسٍ 

وبَــــوحُ الــمـيـمِ بــالآمـالِ نــادانـي

أيــا نَـبْضًا بِـتُرْبِ الـقَلبِ قـدْ أمْـسى  

كَـغُصْنٍ فـي حُـقولِ الـعشْقِ سَوّاني 

تَــدَلّـتْ مـــنْ سَـنـا عـيْـنيْهِ أثْـمـاري 

وفـاضَتْ مـن جَـناءِ الـشَّهْدِ أرْكـاني

بــغـيْـرِ الـمِـيـمِ لا تَــشْـدو قَـوافـيـنا  

ولا تَـسْقي سَـواقي الحَرْف بُسْتاني

بِــحَـرْفِ الـمِـيمِ كــمْ رَتّـلـتُ أنْـغـامًا  

بـلَـحنٍ راقــصٍ فــي نــايِ شِـرْياني

بـجَـوْفِ الـلّيلِ قـدْ تـاقتْ مَـواويلي  

تُناغي في الدُّجى مـنْ بات يَهْواني

لـلُـقْيا الـخـلِّ كــمْ تَـهْـفو تَـفـاصيلي  

وكــمْ تـرْنـو لِـطـيْفِ الـخلِّ أجْـفاني

فــــآهٍ مـــنْ عِــنـادٍ بـــاتَ يـكْـويـني 

وآه مـــــن فُـــــؤاد رام عِــصْـيـانـي 

أيــــا أقْــدارنــا لـــوْ تُـرْفِـقـي فِـيـنـا  

لـكـيْ تـرْسُـو سَـفـائِنَ حُــبِّ نَـيْسانِ

أرَى فـــي الـحُـلَّـةِ الـفـيْـحاءِ أنْـهـارًا 

عَـلـى الـمَـعْنى زُلالُ الـحرْفِ رَوّانـي

بمداد:منية عفلي‎‎

على سبيل الخاتمة:

نص شعري منبثق من حرارة التجربة الحارقة،والأسئلة المقلقة،والمرجعيات المعرفية المتنوعة،حيث يتميز بالتجاور الشعري،أي بالارتباط بشعرية الإيقاع المتخلّق من رحم شعر التفعيلة،وبالحفر في أرض الشعر الرحبة الجغرافيات والمنعرجات.وهي تجربة تزاوج بين المعرفة الفكرية والعاطفية،بين الواقعية المدثّرة بالخيال الجانح صوب المجهول..

وهنا أختم: الشاعرة التونسية الفذة منية عفلي شاعرة حب وحرية تنحاز لأنوثة الحياة بوصفها الرحم التي تتشكل فيه الأجنة..أجنة الابداع..

وعليه..سأرفع لها قبعتي..اجلالا..واكبارا..


محمد المحسن 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق