السبت، 22 نوفمبر 2025

الناقدة والباحثة: د. آمال بوحرب من تونس الشاعر: إبراهيم شحرور من فلسطين

 الناقدة والباحثة: د. آمال بوحرب من تونس

الشاعر: إبراهيم شحرور من فلسطين 

تُعد قصيدة “صَهِيلُ هَوًى” للشاعر الفلسطيني إبراهيم شحرور كونًا شعريًا مكثفًا، حيث تتداخل الذات مع العالم في فضاء من الرموز والحلم. يتحرك النص على حوافّ الوجود الإنساني باحثًا عن المعنى في قلب تجربة الحب التي تتحول إلى مسار للوعي بالذات والزمن والعدم وتفتح القصيدة أبواب التأويل على مصراعيها مقدمة نفسها كمتن خصب للقراءة من خلال مقاربات متعددة تكشف معًا عن ثراء التجربة الإنسانية التي يعبر عنها النص.


نسيج الصورة والإيقاع

تبني القصيدة عالمها على لغة تصويرية غنية تستحضر صورًا طبيعية (الضياء، الليل، الزهور، البروق، السحاب) وتحولها إلى كائنات حية تنبض بالعاطفة. هذه الصور لا تزين النص فحسب بل تشكل عموده الفقري السردي. فـ “أَنْفَاسِ الضِّيَاءِ” تجعل من المحبوبة مقيمة في القلب كقوة حياتية أساسية و”بَطْنَ السَّمَاءِ” تحول حركة النفس إلى رحلة كونية.

الإيقاع يتشكل عبر التكرار الأسلوبي للضمائر المتصلة (“أَحْبَبْتُكِ”، “سَكَنْتِ”) والجمل الفعلية التي توحي باستمرارية الفعل والعاطفة. هذا التكرار يخلق إحساسًا بالتهادي – ذلك التمايل الداخلي بين الحاضر والغائب، بين الشوق واللقاء مما يعطي النص نغمة تأملية حميمة وكأنه حديث روحي داخلي.


الرموز والدلالات:

يتجاوز النص معناه المباشر ليكون شبكة معقدة من العلامات:

· الضوء/الضياء: علامة على الحياة، الأمل، الذات المتألقة (“سَأَظَلُّ… شَمْسًا”، “أَنْفَاسِ الضِّيَاءِ”) وهو يقابل علامة الليل/السحاب/الانطفاء الدالة على الغياب واليأس والموت الرمزي.

· الزهور/الورود: ترمز إلى الهشاشة والجمال والعاطفة النقية لكنها تُبنى منها أسوار (“سُورًا يُطَوِّقُ خَافِقِي”) فتصبح رمزًا للحماية والوهن في آنٍ واحد.

· الروح/النفس: هما علامتان على الذات الجوهرية حركتهما (“تَمَرَّدَتْ رُوحِي”، “تَسَلَّلَتْ نَفْسِي”) تعبر عن التجاوز والبحث. هذا “التهادي الرمزي” هو قلب العملية السيميائية في النص حيث تتأرجح الذات بين قطبين: التعلق بالوجود (الحب) والانجراف نحو العدم (الغياب).

· النجم: يبدو في البداية علامة على الهداية والجمال لكنه يكشف عن خداعه (“يَغْوِي، فَيَخْتَفِي”) ليصبح رمزًا للحلم الخادع أو الوهم الذي ينطفئ.

هذه العلامات لا تعمل بمعزل عن بعضها ولكن  تتفاعل لتخلق دلالة مستمرة عن صراع الحضور والغياب مؤكدة أن كل جمال يحمل في طياته بذور فنائه.


٣. البعد النفسي: تشريح العاطفة والهوية

يقدم النص الحب ليس كشعور مبسط بل كحالة نفسية مركبة تجمع بين النشوة (“هَتَفَتْ بِكِ الأَحْلَامُ”) والألم (“أَوْصَدْتُ أَبْوَابَ الخِيَانَةِ”). الذات في حالة صراع دائم بين الرغبة الجامحة في الالتحام بالآخر (“أَحْبَبْتُكِ… اِبْتِدَاءْ”) والعجز الذي يفرضه الواقع (“حَتَّى إِذَا مَالَ الزَّمَانُ وَلَا أَتَى فَجْرٌ”).

الحنين (“سِرَّ الحَنِين”) محرك نفسي أساسي فهو مساحة لإعادة بناء الذات. من خلال الألم العاطفي والفقد تعيد الذات تعريف هويتها وتجدّد وعيها بنفسها (“عَلِمْتُ أَنَّ النَّجْمَ كَانَ بَغِرَّةً يَغْوِي”). الحب بهذا المعنى هو عملية تحويل نفسي حيث يتحول الألم إلى مصدر للقوة والاكتمال الداخلي رغم كل شيء.


 جدل الروح وإرادة الحب:

تتحاور القصيدة مع عدد من المذاهب الفلسفية:

· الجدل الهيغلي: تتحرك الذات في مسار جدلي تبدأ من الحب المطلق والأمل تواجهها قسوة الواقع وخيبة الأمل (“فَأَدَرْتُ ظَهْرِي لِلرَّجَاءِ”) لتصل إلى مرحلة  جديدة هي التمسك بالحب كقيمة وجودية بحد ذاتها حتى في ظل الغياب (“فَالحُبُّ يَبْقَى، رُغْمَ لَحْظَاتِ ٱنْطِفَاءِ”).

· إرادة القوة النيتشوية: تمارس الذات “إرادة التهادي” بدلاً من إرادة القوة التقليدية إنها تختار الاستمرار في الحب والتأهب له (“سَأَظَلُّ… مُتَأَهِّبًا”) كفعل مقاومة وجودي إنها “هزيمة” في الحب يتم اختيارها بوعي لتصير نصرًا للمعنى والعاطفة على العدم واللامبالاة مؤكدةً “أخلاق المحب المتهادي”.


 الحب في مواجهة العدم

القصيدة تجسد القلق الوجودي الذي يتحدث عنه هايدغر:

يعيش الشاعر تجربة الحب كطريقة أساسية للوجود في العالم حيث يكشف هذا الحب عن طبيعة الزمن القاسية (“مَالَ الزَّمَانُ”) والموت الرمزي (“انْطِفَاءِ”).

وعندما يصبح الغياب والفقد مواجهة مع العدم في هذا الفراغ تختبر الذات حريتها المطلقة في اختيار كيف تستمر فهي تختار خلق المعنى من خلال التمسك بالحب كدليل على وجودها (“وَأُشْعِلُ الآمَالَ فِي عَتَمَاتِنَا”)

يشبه النص تجربة شعراء وجوديين مثل نزار قباني وفدوى طوقان حيث يصبح الشعر نفسه سلاحًا لمواجهة قسوة الزمن وغياب الآخر رموز الضياء والليل تعيد إنتاج الصراع الوجودي الأساسي: الرغبة في الخلود (“خَالِدًا لَا يَنْثَنِي”) وإدراك حتمية الفناء.


رحلة الذات من الفقد إلى الاكتمال

“صَهِيلُ هَوًى” أكثر من قصيدة حب تقليدية إنها رحلة وجودية شاملة عبر نسج متماسك للعناصر الفنية والرمزية تقدم القصيدة تشريحًا عميقًا للنفس الإنسانية في مواجهة محنتها الكبرى الحب الذي يجمع بين النشوة والألم، الوجود والعدم تنتهي القصيدة بتأكيد نهائي لقدرة الذات على التحول (“شَمْسًا”) والتجاوز الحب هنا رغم “صَهيله” الأليم يظل القوة التي تزهر للكبار (“وَلِلْكِبَارِ ثَنَاء”) مؤكدة أن المعنى يُستمد من استمرارية الفعل المحب نفسه في عالم لا يخلو من عتمات الانطفاء.


نص القصيدة: “صَهِيلُ هَوًى” – إبراهيم شحرور


أَحْبَبْتُكِ وَالحُبُّ الإِلٰهِيُّ اِبْتِدَاءْ

وَسَكَنْتِ فِي قَلْبِي كَأَنْفَاسِ الضِّيَاءِْ

وَتَمَرَّدَتْ رُوحِي عَلَى سُنَنِ العُقُو

فَصَارَ عِشْقِي خَالِدًا لَا يَنْثَنِي أَبَدَاءْ

هَتَفَتْ بِكِ الأَحْلَامُ حِينَ تَفَتَّحَتْ

فِي غَيْمِ شَوْقِنَا بُرُوقُ الاِنْتِضَاءِْ

وَتَسَلَّلَتْ نَفْسِي إِلَيْكِ كَأَنَّهَا

فِي لَيْلِ وَجْدٍ قَدْ سَرَتْ بَطْنَ السَّمَاءِْ

يَا أَنْتِ يَا سِرَّ الحَنِين تَهَافَتَتْ

أَضْلَاعُ قَلْبِي فِي هَوَاكِ بِدُونِ رَوَاءِْ

كَأَنَّنِي أَزْرَعْتُكِ النَّبْضَاتِ مُنْذُ هَوَى

عُمْرِي وَأَوْقَدْتُ مِنْ تَنَاهِيدِي الرَّجَاءْ

وَبَنَيْتُ حَوْلَكِ مِنْ وُرُودِ تَوَجُّسِي

سُورًا يُطَوِّقُ خَافِقِي عَنْ كُلِّ دَاءِْ

قُلْتُ اِسْكُنِي فَالحُبُّ رُكْنٌ لَا يُرَى

إِلَّا إِذَا انْفَتَحَتْ عُيُونُ الأُخْفِيَاءِْ

فَتَفَجَّرَتْ فِي الدَّمْعِ أَشْوَاقِي وَقَدْ

هَمَسَتْ إِلَيْكِ رِيَاحُ قَلْبِي بِامْتِلَاءِْ

أَوْصَدْتُ أَبْوَابَ الخِيَانَةِ لَمْ يَعُدْ

لِلْوَجْعِ فِي عُرْسِ الهَوَى ذَاكَ المَضَاءْ

حَتَّى إِذَا مَالَ الزَّمَانُ وَلَا أَتَى

فَجْرٌ وَعَادَتْ ذِكْرَاكِ صَدْرًا بِابْتِلَاءِْ

عَلِمْتُ أَنَّ النَّجْمَ كَانَ بَغِرَّةً

يَغْوِي فَيَخْتَفِي فِي سَحَابِ الانْطِفَاءِْ

فَأَدَرْتُ ظَهْرِي لِلرَّجَاءِ وَلَيْلَةٍ

أَمْسَى الحَنِينُ بِهَا عَلَى بَابِ العَنَاءِْ

مَضَيْتُ أَمْسَحُ رَشْفَةَ الدَّمْعِ الَّذِي

سَارَتْ خُطَاهُ عَلَى طَرِيقِ الشُّهَبَاءِْ

وَأُشْعِلُ الآمَالَ فِي عَتَمَاتِنَا

فَالحُبُّ يَبْقَى رُغْمَ لَحْظَاتِ الانْطِفَاءِْ

وَتَعُودُ نَفْسِي بَعْدَ قَسْوَةِ خَاطِرٍ

شَمْسًا تُؤَكِّدُ أَنَّ لَا مَوْتَ للضِّيَاءِْ

إِنْ كَانَ حُبُّكِ هَزَّنِي فِي بُعْدِهِ

فَالفَجْرُ يَرْجِعُ شَاءَ مَنْ لَا يَشَاءْ

فَأَنَا الَّذِي أَحْبَبْتُ حَتَّى أَسْكَنَتْ

مِنِّي الرُّؤَى عُمْرًا وَمِنْ رُوحِي قُطَاءْ

سَأَظَلُّ وَلَوْ غَابَ الهَوَى مُتَأَهِّبًا

فَالحُبُّ يَزْهُو لِلْكِبَارِ وَلِلْكِبَارِ ثَنَاء



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق