النقاء و العفة
غادرت حرة شقتها الصغيرة في حي السيدة مريم، عبرت مقبرة المغاربة و اتجهت نحو السوق القديم، سوق الإثنين. طريقها المعهود للالتحاق بمدرسة ابن خلدون أين تدرس علم الآثار.
كانت الشابة تمشي ككل صباح عبر الممرات الضيقة، تمر بمحلات الخضر والبهاريات، لكن أكثر ما كان يجذبها هو ذاك المحل الصغير في الزاوية، حيث تعرض امرأة مسنة أزهار الأوركيد في أوانٍ زجاجية أنيقة. لم تكن الأوركيد زهرة عادية، ألوانها الهادئة ونقوشها الدقيقة بدت كلوحة رسمتها يد صبورة.
ذا صباح، توقفت حرة لأول مرة، وسألت العجوز:
– "لماذا هذه الزهرة أغلى من غيرها؟"
ابتسمت المرأة وقالت:
– "لأنها لا تزهر بسهولة، وتحتاج إلى صبر واهتمام… مثل قلوب بعض البشر."
ابتاعت حرة زهرة أوركيد بيضاء، وضعتها على مكتبها. كانت تعتني بها يومًا بعد يوم، تسقيها باعتدال، وتحرّكها قليلًا نحو الضوء. بعد أسابيع، أزهرت الأوركيد من جديد، وكأنها تبتسم لها.
أدركت حرة أن الجمال الحقيقي لا يفرض بالقوة، بل ينمو حين يُمنح الصبر والدفء. ومنذ ذلك الحين، صارت الأوركيد تذكرها بأن بعض الأشياء الثمينة لا تكافئ إلا من يعرف كيف ينتظر...
مرت الفصول، وكبرت الأوركيد بصبر غامض. لم تكن تبحث عن يد تقطفها، بل كانت تكتفي بأن تكون، وأن تهدي عطرها للهواء الذي يمر نحوه.
وفي صباح هادئ، سقطت أول بتلة، ثم الثانية… لكن العطر بقي في الهواء طويلًا، كأن الحياة نفسها كانت تقول: كلّما يزهر، يزهر لسبب… حتى لو لم يره أحد.
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق