على هامش جدلية العلاقة بين الناقد والمبدع
مما لا شك فيه أن النقد ثروة للشِّعر والشعراء..ووقود التطوّر والتقدّم،وهو ضرورة مهمة لإبراز جماليات الإبداع،ومعالجة الأخطاء،ودائماً يشغل الشاعر وربما يتألم،ويصاب بالإحباط،ويشعر بالحسرة نتيجة إخفاقه في كتابة بعض النصوص..
لكن النقد الهادف يفتح مدارك الشاعر،ويستطيع من خلاله المضي قدماً في الاتجاه الصحيح، والمحافظة على موهبته.
ووجود الناقد الحقيقي للشِّعر من أهم العوامل التي تساهم في الشعور بقيمة النص الجمالية، وإزالة الضعف،وظهوره بالشكل المطلوب..
ونجد أن البعض من النقاد يكون قاسياً في نقده مما يتسبب في تحطيم بعض المواهب،والآخر منهم لا يملك مقومات الناقد الحقيقي،مجرد تطاولات تطلق في الاتجاه الخاطئ ولا تخدم الإبداع.
حينما نتحدث عن النقد الأدبي فنحن نتحدث عن تاريخ بدأ من العصر اليوناني واستمر إلى يومنا هذا..
فالنقد الصحيح هو أساس النجاح لأي عمل،ويوسع من أفكار الشاعر،والشِّعر والنقد هما خصمان يساعدان بعضهما للصعود إلى قمة النجاح،ويجب أن نفرق بين النقد والانتقاد فالنقد هو مشرط ناعم يحمله أديب له خبرة وأمانة أدبية،من جانب يشّرح القصيدة ويُظِهر جمالياتها ويبرزها بطريقة جذّابة لتكون مفصلة وواضحة المعاني للمتلقي،ومن جانب آخر يظهر العيوب والهفوات والضعف المصاحب لأي مقطوعة أدبية يتم نقدها.
ولكن..
مطالبة الناقد بالكتابة عن هذا المبدع..أو ذاك،في سياق المجاملات،يحول النقد من عملية تحليلية إلى واجب أو "خدمة". فإذا لم يكن الناقد منجذبًا بشكل طبيعي لعمل المبدع،فمن الصعب أن ينتج نصًا نقديًا عميقًا وصادقًا.فالنقد يحتاج إلى شغف وإعجاب أو حتى رفض قائم على فهم حقيقي.
وهذه قضية-في تقديري-مهمة تتعلق بأخلاقيات النقد الأدبي واستقلالية المبدع والناقد على حد سواء.فالالتزام بالمعايير الأكاديمية والمهنية أساس العملية النقدية برمتها،ذلك أن الناقد الجيد يختار مشاريعه بناء على معايير مثل الأهمية الفنية،الجدة،التعقيد،أو سياقها الثقافي والأدبي، وليس بناء على الضغوط الشخصية.والنضج الفني يعني الاعتراف بأن التقدير يجب أن يأتي بشكل عضوي من جودة العمل نفسه،وليس من الدعاية المُدارة.
من هنا،على للمؤسسات الثقافية أن تشجع على النقد الموضوعي والمستقل،وتخلق مساحات للحوار الصادق والبناء بعيدًا عن
المحسوبية،والمجاملة،والمحاباة.
على هذا الأساس،أؤكد أن النهوض بعملية النقد يستدعي من القائمين عليه دقة الملاحظة ومن ثم تليها خطوات أخرى من تفسير النص ومن ثم الحكم على القيمة.
وفي هذا السياق،لا أخفي مخاوفي من ظهور المجاملة والمحاباة والعلاقات الشخصية والمصالح الذاتية على الساحة النقدية..وهذا-في تقديري- يسهم في تضليل وظيفة النقد الحقيقية،في حين يجب أن تسود الثقة بين المبدع والناقد الذي يجب أن يكون أكثر اطلاعا لكي يستطيع الإحاطة بالمنجز الأدبي من خلال سعة معرفته أولا ومن ثم يأتي الذوق تاليا..
قلنا هذا بعد أن لاحظنا في السنوات القليلة الماضية انتشار الكتابات الصحفية السطحية التي تدعي النقد،وهي مقالات سريعة وعارضة،فيها من المحاباة قدر كبير،وفيها من النزوع إلى تصفية حسابات سابقة أو لاحقة ما يجعل الدارس حذرا مما يقف عليه من أحكام،إذ عادة ما يتجاوز التعريف بالأثر وإحلاله موقعه من المنجز الأدبي، إلى التشهير بصاحبه ووصمه بما ليس فيه. (على غرار ما أشار إليه بخصوص إحدى مقارباتي النقدية، “قلم مأجور”متخم برائحة النفط والدولار” من بلد شقيق،في محاولة يائسة،وبائسة لجري إلى مستنقع الرداءة الذي تمرس على غسل “أدرانه الكتابية” فيه..!) أو مدحه بما لا يستحق،لإعتبارات مزاجية ونفعية،وغالبا ما يكون الموقف من الأثر المنقود متسما بالاِنطباعية والاِرتجال.
وهنا،أبدي أسفي لطغيان الناقد الصحفي على الأدبي في الساحة الثقافية لأن الأول ينظر للنص نظرة وصفية بعيدة عن التحليل الحقيقي،فيما على الناقد أن يبحث في النص من دون النظر لصاحبه.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع : هل يمكن للإبداع أن يستمر ويرتقي ويصل للناس دونما نقد يقوم على التحليل والموضوعية،نقد له ركائز ودعائم وأدوات تبتعد كليّاً عن المجاملة والمحاباة وتبادل المصالح..وبالتالي يتحول (النقد) إلى أداة ترويج لمنتج رديء تنعكس آثاره على الفرد والمجتمع..!
في العقود الماضية،كنا نشهد حراكاً ثقافياً ممتعاً لا محاباة به ولا مجاملات،وهذا بتنا نفتقده مع انتشار الكتاب الإلكتروني،والنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وملتقيات و منابر تدّعي الاهتمام بالثقافة والأدب والنقد و…بمعنى آخر اختلط الحابل بالنابل،وازدحم المشهد الأدبي-الإبداعي حد التخمة بالغث والسمين..!
ومن خلال تخصصي في النقد الأدبي،ومتابعتي لما ينشر عبر تلك الملتقيات من قراءات وانطباعات نقدية،نجد أنها قراءات سطحيّة بعيدة عن أسلوب الناقد المتخصص،فغالباً ما تشمل هذه الانطباعات نصوصاً رديئة،سطحية يتم كيل المديح والثناء لأصحابها،دون ضوابط ومعايير أكاديمية دقيقة،تستجيب للمنهج النقدي الحديث،وهذه طامة كبرى تسببت في تدحرج -النقد-إلى مهاوي الرداءة والترجرج..
إذاً نحن أمام مشهدية مؤسفة يغيب فيها النقد الحقيقي لصالح المجاملات التي لا تقدم ولا تؤخر في مسيرة الإبداع،بل تسوق للضحالة،وتغلب بالتالي الفتق على الرتق..!
وخلاصة القول:العلاقة بين المبدع والناقد يجب أن تكون قائمة على الاحترام المتبادل لإستقلالية كل منهما.فالنقد الحقيقي هو حوار حر وطوعي بين العمل الإبداعي والقارئ المتخصص (الناقد). وأي محاولة لفرض هذا الحوار أو توجيهه تُفقده قيمته ومصداقيته وتضر بجميع الأطراف والمشهد الثقافي ككل.وإن كانت وظيفة النقد سبر أغوار النص الأدبي وتبيان مواطن الجمال وقوة البيان، أو الضعف في الأسلوب والمعالجة فإن الناقد والكاتب معنيان في هذه المسألة ويسعى كل واحد منهم لإظهار ما بجعبته من ألق،وجمال مع ضرورة أن يتقبل كل منهما وجهة نظر الآخر بعيداً عن التشنج أو الاصطفافات البعيدة عن دروب الأدب والإبداع.
ومن هنا،فإن النقد الأدبي هو الذي يروم الكشف عن مواطن الجمال ومكامن القبح،حيث يسلط الناقد نظرته الفاحصة،وذوقَه المرهفَ على الأثر الأدبي فيسبرَ أغوارَه ويحاول أن ينفُذ إلى عمق نفس الأديب ليستخرج خباياها،بما اكتسبه من ثقافة عميقة،وقوة حاذقة على التحليل والتفسير والموازنة والحكم المبرّأ من شوائب الهوى.
ويظل النقد الأدبي وليد معايشة وجدانية بالعمل الأدبي،وأنه نوع من الإبداع القائم على المعاناة، وأن عدة الناقد تكمن في البصيرة والأدوات المكتسبة،وأن الكتابة النقدية نوع من الاكتشاف الجديد.
محمد المحسن

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق