الجمعة، 14 نوفمبر 2025

ورقة من دفتر المواجع.. بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 ورقة من دفتر المواجع..

حين يكتب الكاتب عن طفولته المعطوبة..تستيقظ المواجع العتيقة من غفوتها..!


تصدير : في الحياة قد تخسر حلما،وقد تفقد أملا..وقد تتنازل عن أمنية..لكن كن حريصا ألا تخسر نفسك..


فتحت عيني على أمنا الدنيا ذات فجر رمادي موغل في المواجع،بعد الإستقلال بثلاث عجاف..ليكون لي موعد مع طفولة معطوبة،ينهشها الجوع بنابه الأزرق المتوحش..

ولدت في بيت منحنا إياه ذوي القلوب الرحيمة على وجه الإحسان،فلا مال لنا،ولا حياة تعاش في كنف الاطمئنان وراحة البال..إذ كان والدي رحمه الله-جواب آفاق-،يسير حافيا على ثلج الدروب..ثم يعود إلينا بيد فارغة،والأخرى لا شيء فيها..أما أمي رحمها الله،فكانت في الليالي العاصفات تبكي بصمت..تبكي لحالي وحال إخوتي حين ننام جياع..وأذكر أننا ظللنا تسع ليالي نقتات على مسحوق الدقيق بعد أن تخلطه أمي بقليل من الماء..أولعلها تضيف إليه قطرات من دمعها المنساب على خدها النحاسي..أقول أمي التي أنجبتني في عتمات الفصول،وشمخت فوق زخأت العذاب حين أتاها  الذبول..أمي التي خاضت تجربة الحياة بمهارة..ظلالها مازالت ممتدة من الجغرافيا إلى ارتعاشات القلب..مازالت هنا على عتبات الرّوح مثل رفّ جناح..ومازلت أراها اليوم وهي قابعة في ركن البيت الآيل للسقوط وهي منهمكة بشغل الإبرة ترتق ثيابنا الرثة و المهترئة أصلا..

مرّ غيم الموت،ولم يمرّ جوع الأرض،وجوعي..فاقم الدهر الأخرس معاناتنا فبعنا أدباشنا الرثة بثمن زهيد كي نبقى على قيد البقاء..بعد أن تغلب الفتق على الرتق،وتراجعت صدقات المحسنين وشحّ المال والماء والأمل..

 وأذكر أن شقيقتي الكبرى ظلت دون حذاء..لما يزيد عن سنتين أو أكثر،أما أنا فقد بعت جائزتي الكبرى التي تحصلت عليها كتلميذ متميز في السنة الرابعة إبتدائي إذ كنت الأول على مستوى ولاية مدنين ( كانت جهة تطاوين زمنئذ،معتمدية تابعة لولاية مدنين..ولم تتحول إلى ولاية إلا سنة 1981 ) قلت  بعت جائزتي الثمينة ( كتب،كراسات،أقلام،وقصص للأطفال..) لإبن أحد الأثرياء ببضع مليمات،وأشهد أمام الله أني بكيت،كرضيع شح لبن أمه..أثناء تسليمها لفتى ثري في مثل عمري..

ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،بل بذاكرته المنقوشة في المكان.أزمنة متراصة مكثّفة..

هي ذي حالنا إذن ذات زمن موغل في الدياجير.زمان تكثّف حتى غدا مكانا وحكايات،جراح ومواجع،سماء تنفتح في وجه الأرض،أرض تتسامى وتتخفّف من ماديتها حتى تصبح كالأثير.ثم يلتقيان.الأرض والسماء يغدوان واحدا.وأنا واخوتي الجياع غدونا جسدا واحدا..لكنه عليل،منهك ومريض..

في السادسة إبتدائي مازال ساعدي غضا،يافعا،ولم يتجاوز عمري الثـانيـة عشـرة "انتدبني" خباز لأعمل معه كبائع جوال لأرغفة " خبز الطابونة" من انبلاج الفجر حتى بعد الظهيرة،وكان صاحب المخبزةجشعا،إذ يخصم من أجرتي اليومية الزهيدة ( (2)رغيفا خبز و200 مي)  بعض المال،حين يكون-الحساب ناقصا-،إذ لطالما يهجم علي صبيان جياع ويفتكون مني-قسر الإرادة-بعض الأرغفة،مستغلين ضعف بنيتي الجسدية وعدم قدرتي على الإشتباك معهم لإسترداد تلك الأرغفة المنهوبة..! وكانت الغيوم  في أحيان كثيرة حالكة السواد ترمي شوارع وبيوت مدينتي ( تطاوين) بكل ما في جوفها من مطرٍ وبَرَد وربما ثلج،وأنا أسير حافيا بين الأحياء مناديا بصوت مخنوق " خبز طابونة سخون يا وكالة"...تعبت كثيرا في تلك السنين الجدباء،ونالت مني المواجع في نخاع العظم..وخلت مرار أن الموت سيزورني ليلا ليريحني من شقاء الحياة،ويخلطني من عقال زمن أخرس،لئيم..لكنه لم يأت...! 

لم أكن ماهرا في البيع،فأستغنى الخباز عن خدماتي،وداهمنا الجوع الكافر من جديد،سيما أن والدي أصبح عاجزا تماما عن العمل بسبب مرض عضال..واضطرت والدتي للعمل في بيوت ميسوري الحال،كمنظفة،وتشتت شملنا بعد أن تحولت شقيقاتي بدورهن إلى خادمات في بيوت الجيران وبعض العائلات الميسورة..

مازلت أذكر تلك اللحظة البهيجة التي ربطتني بالكتابة،فعندما كنت تلميذا بالمرحلة الإبتدائية، وكانت أمي تطلب مني كتابة رسائل إلى أزواج وأقارب بعض الجارات بفرنسا للاستفسار عن حالهم،وكان علي تعويض الصوت بالكلمات.. والاجتهاد لاختزان كلمات جديدة أبهر بها أمي وأنافس بها أترابي..وكنت أتقاضى بعض المليمات عن كل رسالة أكتبها..كي نشتري بها زيتا ودقيقا..وهذا يكفي..

في الأولى ثانوي ( نظام قديم سنة 1971) وخلال فصل الصيف،انضممت إلى عمال الحضيرة " الشانطي"،ثم انتقلت إلى مجال " المرمة" وقد اشتد عودي قليلا..وابتدأت رحلتي مع العذاب،واستمرت لسنوات طوال،في مراوحة بين شغف الدراسة،واكراهات الأعمال الشاقة في العطل،وفصل الصيف..

هي ذي طفولتي،المظلمة والمضطربة،وقد عشتها وسط أسرة ينهشها الجوع الطاحن وتعصف بها تقلبات الحياة وحيف الأزمنة المفروشة بالمظالم..لم أعرف فيها طعم الحلوى والسكاكر،ومازلت أذكر أننا كنا ننتظر الأعياد والمناسبات عند الجيران كي نتذوق اللحوم والفواكه التي حرمنا منها عبر سنين عجاف..

‏تركت هذه الطفولة آثارًا لا تُمحى من حياتي..وظل سوادها يلتحف بضلوعي،ويثير عواصف ألم في ذاكرتي الموجوعة..

‏نجحت في امتحان البكالوريا بامتياز..وكنت أرسل لعائلتي المعوزة جزءا كبيرا من منحة الدراسة بالجامعة التونسية..وأعمل في فصل الصيف بائع " سندويتشات" على ضفاف بحر حلق الوادي..و..ولم تنتهي قصتي بعد..والستارة لم تنسدل على مسرحية حياتي المعطوبة..لكني،سأكون أكذب إن لم أعترف بأن تلك التعاسة التي عشتها في طفولتي،قد أفادتني في عدد من النواحي..وهذا موضوع آخر سنتناوله بإستفاضة حين يختمر عشب الكلام..

هي ذي قصتي اليوم مجلّلة بالوجع ومطرزّة بالبهاء: أمل يرفرف كلما هبّت نسمة من هواء..ثمّة فسحة من أمل..خطوة بإتجاه الطريق المؤدية، خطوة..خطوتان ومن حقّنا أن نواصل الحلم.

ولتحيا الحياة..

وأختم بهذه القصيدة التي صغتها بحبر الروح..


حين يهجع الثلج تحت جفون المساء..


الإهداء:إلى أمي في مرقدها الأبدي..أمي التي أنجبتني في عتمات الفصول..وشمخت فوق زخّات العذاب حين آتاه الذبول..


حين تجوع..يا إبني وتبكي

وينساب الدّمع على خديك 

غضوب

لا تشدّ بجرحي وتشكو

حيفَ الزمان..

وقحط الدروب

      وترنّم بعشق الليالي..وعشقي

لإنبلاج الفجر على ربوع الجنوب

***

حين يهجع الثلج

             تحت جفون المساء..

وينمو عشب الشوق..

         فوق العيون الدامعات..

يفتح الوجد للغرباء 

أحضانه

ويعزف القلب للصبح أوتاره..

                          الخالدات

وتشرق في فيض القصيد..

                       الدياجي

وتحتفي القوافي..

  بعطر هذا البهاء

وتزهر من حولك الأمسيات

 التي قد توارت

             وتصحو الرّوح من غفوة الحلم..

والأمنيات

لملم شتيت الرؤى..

     وأرنو بشوقك إلى الشامخات

وأطلق يديك..

تلامس أطياف ذاك المـــــــــــدى

 حيث الهدى..

والتجلي

ولا تبك دهرا..

                    مضى وتولّى

فما بالتنمني..يصاغ القصيد

وينساب عطرا..

            ووعلى القافيات..


محمد المحسن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق