الاثنين، 10 نوفمبر 2025

كش ، سقط الملك بقلم الكاتبة هادية آمنة تونس

 كش ، سقط الملك  


 تجرّعت الغابات رطوبة الليل، تسللت رياح باردة من قمم الجبال ثقُل عليها بخارها فتكاثفت ناشرة غلالة رماديّة من سميك الضباب غطى أشجار السنديان والفلين والتوت البريّ. لمعت قطرات الندى مع أول خيوط الفجر المتساقطة على مرتفعات " عين دراهم ". شبعت أحشاء التربة فانسابت المياه غزيرة إلى السفوح. كان التراب رطبا تحت حوافر الخيول العربيّة الأصيلة المشدودة العضلات التي ركبها الأعاجم ببزاة الصيد الأنيقة. تصاعدت عطور إكليل الجبل والزعتر منعشة للنشّاشة اللذين هرولوا بأقدامهم الحافية بين الغصون المتساقطة والأعشاب الشائكة صاخبين بأصواتهم قارعين بالعصي على الصخور والأواني هدفهم إفزاع الخنازير وإخراجها من جحورها.


تقدّمت الكلاب في خطوات خفيفة وسريعة، بعضهم يمسح بأنفه المرتعش أثر رائحة الخنازير النفّاذة. يتوقفون فجأة، تشتدّ آذانهم الواحدة تلو الأخرى، حينها يتمركز الآخرون في مواقع مفروضة لزاوية تضييق على الطريدة. يتوضّح المسار فتبدأ الكلاب في نبح منخفض متقطّع.


في التسارع الأخير، تتحكّم التضاريس. توقف الخنزير البريّ الضخم للحظة مثبتًا قوائمه، محاولًا المواجهة، ثمّ هرول هاربًا ملتفا بين الصخور وشجيرات العرعر


ما تهافتت كل الكلاب على الملاحقة؛ نظام حكيم ماكر: البعض يُلاحق، والبعض الآخر يلتقط أنفاسه، مختبرًا سرعة الخنزير وقيس المسافات الفاصلة بينه وبينهم.


في المنحدرات الحادة أجبرت الكلاب على إيجاد مراكز للثبات. شعُر الخنزير بأنه مُطوّق، فارتفع شخيره واشتدت رائحته المدفوعة بغزير العرق. رفع رأسه للترهيب، ارتدت الكلاب وتناثرت بين الصخور مطلقة عواءً غليظًا، نداء ارتطم بجذوع الزان، وهبط إلى السفوح حيث رُبطت الجياد.


الأرض لم تعد آمنة. يتقدم الصيادون بحذر شديد عبر الممرات التي يعرفونها، يصعدون بين الصخور العالية، أيديهم ثابتة على جذوع الأشجار لموازنة أجسامهم. يسيرون في خط مقوّس، حذرين، وبنادقهم مرفوعة في وضع إطلاق.


رغم الصخب كان المقيم العام الفرنسي هادئا لقد تولّدت في ذهنه فكرة خطيرة، فكرة لا يعرفها إلا هو، سيستعجل تنفيذها بعد انتهاء رحلة الصيد.


تأمّل الصيّادين الأوروبيين وهم يوزّعون خطواتهم بثقة خلف النشّاشة الفاتحين لهم الطريق المنسلّين بخفّة بين الصخور والأشجار،


" مهما تظاهروا بالحماسة فهم مجبرون على توظيف مهاراتهم يشاركون دائمًا في اقتناص ما يُطلب منهم اقتناصه"...


استشعر المقيم العام، وكأن مشهد الصيد ليس مجرد رياضة. ها قد انعقدت في ذهنه مقارنة لئيمة: في اندفاع الكلاب، رأى صورةً للمناورة حين تُحسن الانقضاض، وفي محاصرة الخنزير ما يشبه وضع ملكٍ يتأرجح عرشه تحت وطأة الضغوط.


كل خطوة يقطعها “النشّاشة”، وكل صفير يطلقه الصيّادون الفرنسيون لتضييق الحلقة، كان درسًا رمزيًا لطريقة يمكن بها قيادة الأمور في القصر الحسيني: الفرنسيون في موقع القيادة، التونسيون الضعفاء في موقع التابع، والملك في موقع الفريسة..

هادية آمنة تونس



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق