الاثنين، 17 نوفمبر 2025

حكايات والدي / قصة قصيرة بقلم الكاتبة ليلى عبدالواحد المرّاني / العراق

 حكايات والدي /  قصة قصيرة

ليلى عبدالواحد المرّاني / العراق


حين يدير والدي وجهه إلى الحائط ويتظاهر بالنوم؛ أدرك أن شيئاً يضايقه… فدأبه منذ أحيل على التقاعد، وهو يلازم الكنبة التي خصّصها لنفسه تحت نافذة واسعة في الصالة مقابل جهاز التلفاز، تطلّ على شجرته الأثيرة التي زرعها بيديه في الحديقة، يطقطق بسبحته ذات ( الحبّات ) الكبيرة، صامتًا، شارد الفكر… وحين يعتدل في جلسته، ويضع نظارته الطبيّة التي تعطي لعينيه سعةً وسطوةً، وتلتفّ حول رقبته بقيطانٍ أسود، نفهم أنه يريد أن يتكلّم، أن يحكي قصصًا مثيرة عن مغامراته وشقاوته حين كان شاباً… ورغم إننا سمعنا هذه الحكايات عشرات المرّات؛ إلاّ إننا نصغي إليه باهتمام وتلذّذ، رغم محاولة أخوتي الصغار الهرب إلى المطبخ مع أمّي التي تلملم نفسها بحركةٍ سريعة، 

—سأحضّر لكم الشاي.

هكذا تقول أمي وهي تغطّي فمها بطرف ( فوطتها )!

تخرج الكلمات من فم والدي متلاحقة، وبنفس الاسترسال والتتابع الذي اعتدنا عليه في كلّ مرة… يرفع نظارته من عينيه حين ينتهي، ويدير وجههه إلى الحائط، ويغطّ في نومٍ عميق… نتسلّل بحذر إلى المطبخ، نتضاحك بأصوات خافتة، ونأخذ نعدّ المرّات التي سمعنا بها هذه الحكايات… عشرة مرات، يصيح أخي الصغير… لا، عشرون مرة… ثلاثون، وتبدأ الأرقام بالتصاعد، فتهمس أمي، " إحذروا، سيسمعكم… له أذن تسمع دبيب النملة! "

والدي الذي عهدناه صلبًا، قويّا، صوته يحمل عمقًا نرتعش خوفاً حين نسمعه يؤنّب أو يعاقب أحدنا، أصبح الآن هشّا، متداعيًا بعد أن سرقت السنون حيويته وسطوته، وبعد أن أقعده المرض والروماتيزم الذّي عشش في مفاصله عن الخروج من البيت، وأشدَها قسوةً عليه، إحالته على التقاعد قبل الأوان، وفراق أصحابه وأصدقائه.

تستمرّ أيامنا على هذه الوتيرة، حتى كان ذلك اليوم الذي أتمنى أن أحذفه من التقويم!

جاء ابن أخي لزيارتنا في يوم شتوّي بارد، مجتمعون كنّا حول المدفأة النفطية، نتابع أحد الأفلام الكارتونية، أبي معنا يتابع باستمتاع.

بارق، ابن أخي، مراهق شقيّ، منفلت اللسان، نحبَه كثيرًا رغم شطحاته، تبرَر أمّي أفعاله التي تصل حدّ مضايقة الآخرين، " هو لا يزال صغيرًا، لا يفقه ما يقول أو يفعل " هكذا تقول أمي، فيزداد غضبنا عليه!

اعتدل والدي بجلسته،ابتسم بحبّ لحفيده الذي هتف بصوتٍ ضاحك، " هلو جدّو "

وضع والدي نظارته على عينيه، ونظر إليه طويلًا باعتزاز، " سأقصّ عليكم هذه الحكاية، ولك أنت بالذات يا بارق، كي تتعلّم وتصبح مثل جدّك قويّا ويهابه الجميع. "

وضعتُ يدي على قلبي خشية من ردّة فعل بارق حين يسمع قصص بطولات جدّه!

تنحنح والدي بقوّة وكأنه يسلّك حباله الصوتية، ابتلع ريقه…  و….

—كنت خارجًا من بيتنا في المحلّة القديمة، كان عمري حوالي ثمانية عشر عامًا، وإذا بشلَة من الشقاوات، حوالي خمسة عشر واحدًا، يعترضون طريقي

هنا، حاول أخي الصغير أن يذكَره،" ولكنهم كانوا عشرة يا أبي. "

خزره والدي حانقًا؛ فصمت.

— وماذا حصل يا جدّي؟ 

صاح بارق منفعلاً…

— هجموا عليّ جميعهم، ولكنني انقلبت عليهم مثل ( الطنطل )١

وضحك بارق ومعه أخي الصغير..

— أوقعتهم أرضًا، الواحد تلو الآخر، والدماء تنزف من أنوفهم.

فجأةً، قفز بارق من مكانه صارخًا وهو يضحك، " معقولة جدّو؟ يعني أنت مثل ( گراندايزر )٢

ذُهلت، لم أعرف ماذا أقول لهذا الشقي وأنا أرى نظرة انكسار في عين أبي، سقطت نظارته على صدره، استدار نحو الحائط… وانقطعت الحكايات التي كان يرويها.

                     ===========/===============

١- الطنطل : شخصية خرافية مرعبة تحكي لنا عنها جدّاتنا 

٢- گرانديزر : شخصية كارتونية ذو قوة هائلة، يحبه الأطفال كثيرا



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق