أحجية القصاص
(أسمى تجلياتِ العقلِ أنْ يغورَ الإنسانُ في وجودهِ، فيفتشَ عن سرِ إبداعهِ، حتى وإنْ تعاظمَتِ التحدياتُ أمامَهُ؛ لكنَّهُ يواجهُها بصمتٍ) آهٍ سألعنُ ذاكرتي؛ لأنَّها أعادَتْ لي رائحةً مثيرةً للشفقةِ، وأنا قررْتُ عدمَ الخوض في الحديثِ مرةً أخرى، فالقدرُ أبدعَ في تصفيةِ حساباتهِ معهنَّ، حيثُ لم تستطعْ أيُّ واحدةٍ منهنَّ الكذبَ، فما جرى لهنَّ كفيلٌ بالانشغال عني، حتماً لم أعدْ بنفسِ سذاجتي فقد أصبحَتُ أكثرُ ثباتاً، واقتناعا بأنْ الذي يولدُ ليزحفَ لا يستطيعُ أنْ يطيرَ كما يقالُ.
لقد خنقنَ أنفاسَ صباحي.
لقد خنقنَ أنفاسَ صباحي.
بيومِ قرأَتْ إحداهُنَّ في مذكراتي خاطرةً عن الحبِّ، كتبَتْها صديقتي وهي طالبةٌ معاقةٌ طيبةٌ درسَتْ معي آنذاكَ، لكنَّ إحدى بناتِ العمِّ أذاعَتِ النبأَ العظيمَ، وكأنَّ حرباً عالميةً قد نشبَتْ، وأولادُ العمِّ يمتلكونَ مشاعرَ جياشةَ ولا يستطعيونَ التحكمَ فيها، فمنعوني من الدراسةِ وأشبعوني حقداً، وتقولاً، ونفاقاً.
بقيَتْ بناتُ العمِّ السبعةِ لاهثاتٍ، يقتلنَ الوقتَ بوجعِ مطرٍ حزينٍ، لما عشنَه من فراغٍ عاطفيٍّ ووهمٍ ثقافيٍّ، فكلُّ واحدةٍ منهنَّ لم تكملْ دراستَها، وباتَتْ ذاكرتُهنَّ تؤرشفُ مزيداً من الحكاياتِ حولي، على أنَّ أمواجَ البحرِ الأبويةِ (والدي) كانَتْ لهنَّ بالمرصادِ، فتحيلُ ما يقلنَ هباءً منثوراً، فقررنَ الاستعانة بتعويذةٍ أجنحةِ الخفافيشِ في الظلامِ، مع عظامِ هدهدٍ بريءٍ، وشمعةٍ مذابةٍ في جمجمةِ أحدِ الموتى، وبيضةٍ مشويةٍ متعفنةٍ تحتَ سريرٍ قذرٍ.
في زاويةِ أقذرَ حققنَ أحلامَهنَّ على قارعةِ الأيامِ، فاجتمعَ أولادُ عمي السبعةَ الطغاةَ، في ليلةِ عشاءٍ أخيرٍ للعزابِ، وقرروا الزواجَ ببناتِ عمي السبعِ، بعدَ نجاحِ تعويذةِ أيقونةِ قرابينِ البحر، وفقاً لظاهرةِ القمرِ الدمويِّ.
التفت الى دراستي ،واهتمْمتُ بوالدي وبأخي الوحيدِ الذي يذكرُني دائماَ، بأنَ غيومَ الأحزانِ تتراكمُ بداخلهِ، لكنَّهُ كثيراً ما كانَ يرقصُ رقصاتٍ شعبيةً، تشعرُني بأنَّهُ ذاهبٌ الى سفرِ في الآخرةِ.
في النهايةِ حصلَتْ على ثمرتي التي حلمْتُ بها، لقد نلْتُ شهادتي العليا وبامتياز، هل تدرونَ ماذا حلَّ ببناتِ العمِّ بعدَ أنْ أكلهْنَّ صدأُ الجهلِ، وبعدَ أنْ تراكمَتْ نقودُ أولادِ عمي، انتظروا.. سأهزُّ منخلَ ذاكرتيّ لأسردَ لكم، الأولى لم ترزقْ بأي طفلٍ؛ فاضطرتْ لإجراءِ عمليةٍ لطفلِ أنابيبٍ، ولدَتْ معاقاً ذهنياً، وزوجُها يعاني من أمراضٍ لا حصرَ لها، أبدعَتْ مستشفياتُ العالمِ في النيلِ من جيوبهِ…الثانيةُ رُزِقَتْ ببنتينِ وولدٍ، اثنانِ منهما يعانيانِ من مرضِ السمنِة المفرطةِ، فأقعدَتْهم عن ممارسةِ حياتِهم، والبنتُ الأخرى كانَتْ سمراءَ للغايةِ، ولجهلِ أمِّها عزلتْها عن العالمِ الخارجيِّ، أما والدُهم فقد أبُتلي بمرضِ البهاقِ الشديدِ، وعلاقاتُهُ معَ المجتمعِ محدودةٌ جداً لا تتعدى إخوتُهُ…والثالثةُ رُزِقَتْ بولدينِ يعاني الأولُ من مرضِ التوحدِ، والآخرُ مصابٌ بداءِ الصدفيةِ والوالدُ يعيشُ هائماً، ملَ مراجعةَ الاطباءِ ومعاهدِ التربيةِ الخاصةِ دونَ جدوى، والأمُّ نالَها ما نالهَا من تجاعيدِ الهمِّ والغمِّ….والرابعةُ تزوجَتْ ولم تعلمْ أنَّ إبنَ عمِها يعاني مرضَ الثلاسيميا (تكسرُ كرياتِ الدمِ البيضاءِ) واكتشفت أنَّها حاملةُ لنفسِ المرضِ، فبقيَتْ متزوجةً دونَ أنْ ترزقَ بأطفالٍ… والخامسةُ فقدَتْ خيطَ الحكايةِ وهربَتْ معَ زوجِها الى دولةٍ مجاورةٍ، لتعيشَ في أجواءٍ نقيةٍ كما تقولُ، مع أنَّها حاقدةٌ عليَّ ولا أعرفُ السببَ، لكنَّها فوجئَتْ بأن زوجَها كانَ يعيشُ قصةَ نشيدٍ شريدٍ بعيدٍ عنها، معَ عاهرةٍ من دولةٍ أخرى فلم تعشْ معهُ الإ أياماً قليلةً، وأرسلَهُ ملكُ الموتِ مؤقتاً بانتظار الجهنم الأبديِّ، والسادسةُ أكملَت دراستَها الإعدادية، وكتبَ إبنُ عمِّها خاطرةً عن الحبِّ في دفترِ مذاكرتِها، لكنَّهُ كالأفعى معَها يتلونُ مع الأجواءِ، فلم يعترفْ لها بأنَّهُ مصابٌ بداءِ الصرعِ المتكررِ، وتزدادُ حالتُهُ سوءاً كلما نشبَ صراعٌ تقودُ فيها بنتُ عمي حرباً لنشرِ الغسيلِ، فلا تتركُ زاويةً إلا وقد فضحَتْهُ فيها، وكانَتْ ترفضُ الإنجابَ منهُ ويحاولُ عمي أنْ يبقيَ الوضعَ مستقراً مسيطراً عليهِ لكنْ دونما جدوى، أما بنتُ عمي الأخيرةُ فهي مثيرةٌ للشفقةِ إنَّها غيرُ جميلةٍ بالمرةِ، ولأنَّ زوجَها مدللُ عمي الأخيرِ قررَ قطعَ صلتهِ بالماضي، والتمتعِ بالحاضرِ ليؤسسَ شركةً للسفرِ والسياحةِ خاصةٍ بالشبابِ والى أذربيجانَ بالتحديد!
أبدعَ الخالقُ وقضاؤهُ بانشغال بناتِ عمي بمصائبِهنَّ عني، لكنَّكم لم تعرفوا أنَّ شهادتي العليا التي حصلْتُ عليها، كانَتْ في مجالِ علمِ نفسِ الطفلِ وأمراضِ الدمِ الحديثةِ، وقد درسْتُ أحوالَهنَّ؛ لإيجادِ العلاجِ لمشكلاتِهنَّ مع عيناتٍ أخرى أكثرُ تعاسةٍ، فقط تأكدوا أنَّي لم أكتبْ للتشفي، فاللهُ ليسَ بظلامٍ للعبيدِ، وقد عبرْتُ على متنِ الحلمِ، وأعلنْتُ رغمَ رحيلِ والدي وأخي بحادثِ سيارةٍ مفجعٍ، أننَّي تعافيْتُ وكانَتْ لي الجرأةُ باختيار حياةٍ أخرى، وسطَ أبنائي من طلبةِ الجامعاتِ، وحتى لا أسيءُ اللفظَ مع ضيقِ الجوابِ دعوني أسألُهُنَّ: ماذا فعلْتُ لكنَّ لتضمرنَ لي هذا الحقدَ؟ ليسَ ذنبي إنَّي ذكيةٌ ومبدعٌة؟!
صعدْتُ سيارةَ زوجي الطبيبِ البيطريّ وبيديّ قصتيّ فقالَ: هناكَ كثيرٌ من البشرِ لا يعرفونَ الحبَّ أبداً، ومرضُهم المزمنُ هو الحقدُ، هل تصرينَ على نشرِ القصةِ؟ أجبتْهُ بابتسامة: لا، لن أنشرَها إكراماً لأحفادِ عمي!!!
أمل هاني الياسري/ العراق
بقيَتْ بناتُ العمِّ السبعةِ لاهثاتٍ، يقتلنَ الوقتَ بوجعِ مطرٍ حزينٍ، لما عشنَه من فراغٍ عاطفيٍّ ووهمٍ ثقافيٍّ، فكلُّ واحدةٍ منهنَّ لم تكملْ دراستَها، وباتَتْ ذاكرتُهنَّ تؤرشفُ مزيداً من الحكاياتِ حولي، على أنَّ أمواجَ البحرِ الأبويةِ (والدي) كانَتْ لهنَّ بالمرصادِ، فتحيلُ ما يقلنَ هباءً منثوراً، فقررنَ الاستعانة بتعويذةٍ أجنحةِ الخفافيشِ في الظلامِ، مع عظامِ هدهدٍ بريءٍ، وشمعةٍ مذابةٍ في جمجمةِ أحدِ الموتى، وبيضةٍ مشويةٍ متعفنةٍ تحتَ سريرٍ قذرٍ.
في زاويةِ أقذرَ حققنَ أحلامَهنَّ على قارعةِ الأيامِ، فاجتمعَ أولادُ عمي السبعةَ الطغاةَ، في ليلةِ عشاءٍ أخيرٍ للعزابِ، وقرروا الزواجَ ببناتِ عمي السبعِ، بعدَ نجاحِ تعويذةِ أيقونةِ قرابينِ البحر، وفقاً لظاهرةِ القمرِ الدمويِّ.
التفت الى دراستي ،واهتمْمتُ بوالدي وبأخي الوحيدِ الذي يذكرُني دائماَ، بأنَ غيومَ الأحزانِ تتراكمُ بداخلهِ، لكنَّهُ كثيراً ما كانَ يرقصُ رقصاتٍ شعبيةً، تشعرُني بأنَّهُ ذاهبٌ الى سفرِ في الآخرةِ.
في النهايةِ حصلَتْ على ثمرتي التي حلمْتُ بها، لقد نلْتُ شهادتي العليا وبامتياز، هل تدرونَ ماذا حلَّ ببناتِ العمِّ بعدَ أنْ أكلهْنَّ صدأُ الجهلِ، وبعدَ أنْ تراكمَتْ نقودُ أولادِ عمي، انتظروا.. سأهزُّ منخلَ ذاكرتيّ لأسردَ لكم، الأولى لم ترزقْ بأي طفلٍ؛ فاضطرتْ لإجراءِ عمليةٍ لطفلِ أنابيبٍ، ولدَتْ معاقاً ذهنياً، وزوجُها يعاني من أمراضٍ لا حصرَ لها، أبدعَتْ مستشفياتُ العالمِ في النيلِ من جيوبهِ…الثانيةُ رُزِقَتْ ببنتينِ وولدٍ، اثنانِ منهما يعانيانِ من مرضِ السمنِة المفرطةِ، فأقعدَتْهم عن ممارسةِ حياتِهم، والبنتُ الأخرى كانَتْ سمراءَ للغايةِ، ولجهلِ أمِّها عزلتْها عن العالمِ الخارجيِّ، أما والدُهم فقد أبُتلي بمرضِ البهاقِ الشديدِ، وعلاقاتُهُ معَ المجتمعِ محدودةٌ جداً لا تتعدى إخوتُهُ…والثالثةُ رُزِقَتْ بولدينِ يعاني الأولُ من مرضِ التوحدِ، والآخرُ مصابٌ بداءِ الصدفيةِ والوالدُ يعيشُ هائماً، ملَ مراجعةَ الاطباءِ ومعاهدِ التربيةِ الخاصةِ دونَ جدوى، والأمُّ نالَها ما نالهَا من تجاعيدِ الهمِّ والغمِّ….والرابعةُ تزوجَتْ ولم تعلمْ أنَّ إبنَ عمِها يعاني مرضَ الثلاسيميا (تكسرُ كرياتِ الدمِ البيضاءِ) واكتشفت أنَّها حاملةُ لنفسِ المرضِ، فبقيَتْ متزوجةً دونَ أنْ ترزقَ بأطفالٍ… والخامسةُ فقدَتْ خيطَ الحكايةِ وهربَتْ معَ زوجِها الى دولةٍ مجاورةٍ، لتعيشَ في أجواءٍ نقيةٍ كما تقولُ، مع أنَّها حاقدةٌ عليَّ ولا أعرفُ السببَ، لكنَّها فوجئَتْ بأن زوجَها كانَ يعيشُ قصةَ نشيدٍ شريدٍ بعيدٍ عنها، معَ عاهرةٍ من دولةٍ أخرى فلم تعشْ معهُ الإ أياماً قليلةً، وأرسلَهُ ملكُ الموتِ مؤقتاً بانتظار الجهنم الأبديِّ، والسادسةُ أكملَت دراستَها الإعدادية، وكتبَ إبنُ عمِّها خاطرةً عن الحبِّ في دفترِ مذاكرتِها، لكنَّهُ كالأفعى معَها يتلونُ مع الأجواءِ، فلم يعترفْ لها بأنَّهُ مصابٌ بداءِ الصرعِ المتكررِ، وتزدادُ حالتُهُ سوءاً كلما نشبَ صراعٌ تقودُ فيها بنتُ عمي حرباً لنشرِ الغسيلِ، فلا تتركُ زاويةً إلا وقد فضحَتْهُ فيها، وكانَتْ ترفضُ الإنجابَ منهُ ويحاولُ عمي أنْ يبقيَ الوضعَ مستقراً مسيطراً عليهِ لكنْ دونما جدوى، أما بنتُ عمي الأخيرةُ فهي مثيرةٌ للشفقةِ إنَّها غيرُ جميلةٍ بالمرةِ، ولأنَّ زوجَها مدللُ عمي الأخيرِ قررَ قطعَ صلتهِ بالماضي، والتمتعِ بالحاضرِ ليؤسسَ شركةً للسفرِ والسياحةِ خاصةٍ بالشبابِ والى أذربيجانَ بالتحديد!
أبدعَ الخالقُ وقضاؤهُ بانشغال بناتِ عمي بمصائبِهنَّ عني، لكنَّكم لم تعرفوا أنَّ شهادتي العليا التي حصلْتُ عليها، كانَتْ في مجالِ علمِ نفسِ الطفلِ وأمراضِ الدمِ الحديثةِ، وقد درسْتُ أحوالَهنَّ؛ لإيجادِ العلاجِ لمشكلاتِهنَّ مع عيناتٍ أخرى أكثرُ تعاسةٍ، فقط تأكدوا أنَّي لم أكتبْ للتشفي، فاللهُ ليسَ بظلامٍ للعبيدِ، وقد عبرْتُ على متنِ الحلمِ، وأعلنْتُ رغمَ رحيلِ والدي وأخي بحادثِ سيارةٍ مفجعٍ، أننَّي تعافيْتُ وكانَتْ لي الجرأةُ باختيار حياةٍ أخرى، وسطَ أبنائي من طلبةِ الجامعاتِ، وحتى لا أسيءُ اللفظَ مع ضيقِ الجوابِ دعوني أسألُهُنَّ: ماذا فعلْتُ لكنَّ لتضمرنَ لي هذا الحقدَ؟ ليسَ ذنبي إنَّي ذكيةٌ ومبدعٌة؟!
صعدْتُ سيارةَ زوجي الطبيبِ البيطريّ وبيديّ قصتيّ فقالَ: هناكَ كثيرٌ من البشرِ لا يعرفونَ الحبَّ أبداً، ومرضُهم المزمنُ هو الحقدُ، هل تصرينَ على نشرِ القصةِ؟ أجبتْهُ بابتسامة: لا، لن أنشرَها إكراماً لأحفادِ عمي!!!
أمل هاني الياسري/ العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق