الغرفة 101
أخيرا انتهى يوم عملها الطويل ...نزعت عنها سترتها البيضاء وتهالكت على المقعد تريح جسدا منهكا وتجمع شتات عقل اعياه التفكير...لم يكن يومها عاديّا...مع كل ما مرّ بها وما عاشته في ذاك المكان الغريب ، لم يكن هذا اليوم من حياتها عاديّا ...
حاولت أن تشغل نفسها بتصفّح هاتفها والنّظر فيما يمكن ان يكون قد وصل إليها من رسائل قبل ان تغادر المكتب .
لا زال ذلك الصوت يقضّ مسامعها... تساير ذبذباته نبضات قلبها...
_"اي بنيّتي لم هذا الجفاء ...لم تلقين بي في هذا الصقيع ؟" قطرات الدموع تلك التي بلّلت خدا غزته التجاعيد ... تلك النظرة المنكسرة وتلك الرّجفة التي يهتزّ لها الكيان ...
مشهد طالما تعودت تفاصيله وتكرر الى الحدّ الذي بات خبزها اليومي ولكنها اليوم ، تعيشه بشكل مغاير تشعر به بشكل مغاير...
_" لاتتأخري نحن في انتظارك ...نجمة معي ... أخذتها من الحضانة وها نحن في طريقنا إلى البيت...ارجوك حاولي ألا تتأخري في العودة ... هذا اليوم على الاقل..."
كانت رسالة من زوجها أعادتها إلى الواقع ، ونبّهتها إلى أنُ الوقت قد حان للعودة إلى المنزل فارتدت معطفها وحملت حقيبتها واستعدت للمغادرة...فجأة رنّ هاتفها:
_ "ٱنسة حنين لو سمحت نحتاجك في الغرفة 101الامر طارئ ..."
الغرفة 101 ؟ إنها غرفتها...تلك المرأة ...نعم السيدة ...فاطمة ؟ كان ذاك اسمها ...ترى هل اصابها مكروه ؟ عادت ادراجها إلى المبنى وكانت قد غادرته، وفي ذهنها ألف سؤال...ماقصة تلك المرأة ؟لم رسخت ملامحها في ذهنها إلى هذا الحدّ ؟ مالذي يشدّها إليها وهي التي تعوّدت على رؤية عدد لا يحصى من النساء في مثل سنّها وفي مثل وضعها...؟
كان اللقاء غريبا لافتا...نظراتها إليها كانت آسرة ...نبرة صوتها وهي تعاتبها اخترقت وجدانها ويبدو أن ملامحها قد سكنت قلبها...لطالما فصلت بين عملها كأخصّائيّة نفسيّة في مأوى للعجّز وبين عواطفها ومشاعرها الذّاتيّة...ولطالما أقنعت نفسها بأن تبنيَ لها جدارا عازلا ، مانعا من تسرّب اثر الحالات التي تعالجها ، إلى وجدانها فتُضعف مناعتها النفسيّة وهي التي عانت من هشاشتها لسنوات ...حافظت على ذلك المبدإ طيلة السّنوات الخمس التي قضّتها في ذلك المأوى...وهاهي تكاد تفقد صلابتها وتوشك مقاومتها أن تهوي أمام هذه النزيلة ذات النظرة الٱسرة...
_"الغرفة 101...101...إنها هناك في آخر الممرّ .."كانت تسرع
الخطى وفي ذهنها سؤال واحد ترى مالذي يحدث بين جدران تلك الغرفة ومالذي ينتظرها فيها ؟
في سنوات عملها في هذه الدّار ،دار المسنّين ، كانت قد صادفت العديد من النزيلات والنزلاء ...مسنّات ومسنـّين...واستمعت الى قصص وحكايات عدّة ... بعضها حقيقيّ وبعضها تشوبه المبالغات ....كان بعضهم يلجأ إلى سرد قصًته ليخفّف عبئا أثقل كاهله في حين يلوذ البعض الآخر بالصمت يتحصّن به إمّا يأسا وخيبة أو حفظا لماء وجه وانتصارا لعزّة نفس ... أمّا دورها والمهمّة الموكلة إليها فهي هدّ أسوار هذا الصّمت والنّبش في مكنونات الصّدور علّها تُشفي جرحا وتعيد إلى الأرواح صحّتها وإلى الوجوه بسمتها...
كانت روحها عليلة وكانت هذه المهنة لها بلسما...توفي ابواها فجاة...عاشت الفقد وعانت من اليتم ...تهاوى سقف بيتها بموتهما فبحثت عن جدران تاويها وكان الٱباء والأمهات في ذلك المأوى حضنا يقيها قرّ اليتم ومرارة الفقد ...كم من القصص تواترت على مسامعها وكم حكاية أسالت مدامعها وكم سؤال أقضّ مضجعها ..كيف يمكن لقلب الإنسان أن يتحجر إلى هذاالحد ؟ لم يكن عقلها ليستوعب ما تعاينه في عملها من مآس ...ان يتخلى المرء عن امه او ابيه يبدو بالنسبة إليها اشبه بالتخلي عن قطعة من جسدها ..عضو منه لا تستقيم الحياة بدونه...قلب ربما...كانت تدرك أنهما القلب والروح وبفقدانهما يفقد المرء طعم الحياة...
هي اكثر من يدرك ذلك ..كانا لها سقفا وجدرانا وبرحيلهما باتت تشعر انها في العراء ...درست ...تزوجت...أنجبت...ولكن ذاك الشعور المرير باليتم ظل ساكنا فيها ينغّص كل لحظة سعادة عاشتها وكلما توهّمت ان جرحها قد اندمل تعود إليها آلامها مع كل هبّة لنسائم الذكرى والحنين...
_"آنسة حنين ...الحمدلله انك لم تغادري ....نحتاجك في الغرفة 101لو سمحت.."
_مالامر ؟ مالذي حصل ؟
لم تنتظر ردا على سؤالها بل سارعت إلى الغرفة تفتح بابها في خوف وتوجّس ...التقت نظراتهما للحظة فسرت في جسدها رجفة لم تدرك لها سببا...كانت المرأة ذات النظرة الآسرة تفترش الأرض، تتكور على ذاتها كما لو انها تود ان تختفي وتتلاشى فما جدوى الحياة إذا تخلى عنا من نحب... كان المشهد موجعا إلى حد الغثيان...ولكنه لم يكن جديدا بالنسبة إليها بل هي الحالة المعتادة لكل نزيل جديد يُحمل ويُترك في هذا المكان ...يُلقى به كما يُلقى بما زاد عن الحاجة من الأشياء..او..باشياء انتهت مدة صلاحيتها...هكذا كانت تشعر كلما عاينت نزيلا جديدا واستمعت إلى قصته...كومة ألم تتراكم على صدر آباء وأمهات خذلهم ابناؤهم ورموا بهم في هذا المأوى و تحججوا بحجج شتى ليبرروا تخليهم عن واجبهم تجاههم...كانت تتساءل في كل مرة هل الأبناء وحدهم من يعيشون يتما ام انّ الابوين كذلك يعانيان من اليتم حين يتخلى عنهم الأبناء... ؟ وهل ان احتياجاتهم تقتصر فقط على مجرد الايواء ؟
لم يكن المشهد جديدا ...ولكن وقعه عليها كان غريبا....تقدمت نحوها بحذر وإشفاق ... حاولت الاقتراب منها وتهدئتها ولكنها لم تزدد إلا خوفا ورفضا...ونحيبا خافتا يشق الضلوع....مرت لحظات وإذا بالمراة ترفع راسها بحذر ...تمد اليها يدها...تلامس وجهها وتردد وجعها في تلك الحروف التي اقضت مسامعها منذ اول لقاء بينهما ...
"_أي بنيتي لم هذا الجفاء ...لم تتخلين عني...لم تلقين بي في هذا الصقيع ؟ كانت تصوّب نحوها نظرات غريبة لم تتمكن من فكّ رموزها ولكن اثرها في نفسها كان عميقا ... اتخالها ابنتها ؟ أتعاتبها ...هي ؟اتظنها من تخلى عنها ...؟حاولت ان تخفف من وجعها ،ان تتشبث بدور الأخصائية النفسية ولكن هيهات ..كانت تشعر ان عقد صلابتها قد انفرطت حباته...حبة حبة مع كل دمعة تبلل ذاك الخد المجعّد...ومع كل نفس يغادر ذاك الصدر المثقل بالاوجاع...اشاحت بوجهها عنها حاولت الانشغال بقلم كان يخط قصتها... وفجأة عنّ لها خاطر...غريب...؟ او هو ... مجنون ربما؟ بل هو الجنون بعينه ...أيعقل أن تفعلها ...؟ولم لا...؟ إنه العقل عينه..
وزوجها ؟ كيف ستكون ردّة فعله.. ايرفض؟ ولم يرفض؟ أتراه يقبل ؟ ولم لا يقبل ؟ أليس زوجها ...سندها ...الشّاهد على تعاستها ؟ الحريص على إسعادها وملء فراغ روحها ؟ لم هي من بين كل النزيلات ؟ هي ...لكانها كانت في انتظارها...كان كل مافي تلك المراة يحتضها ...يربت على قلبها ...نظرتها الآسرة ...صوتها...لمستها وهي تمسح على خدها في حنو تتفحص وجهها...حتى عتابها الذي اخترق كيانها كان له وقع خاص...لقد ايقظت السيدة فاطمة فيها شعورا ظنت انها قد قبرته ولكنه لم يكن إلا نارا تسكن صدر الرماد وهاهي تشتعل مجددا في صدرها وتشيع فيه دفأها ...
حبيبة عداد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق