الأحد، 31 أكتوبر 2021

زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد بقلم د عبد الحميد ديوان

 زبيدة بنت جعفر

زوجة الرشيد
إنها السيدة العظيمة التي طال فضلها كل من قصد مكة حاجاً أو معتمراً بل إنها بلغت من المفاخر ما يتجاوز كل كلام في هذا المجال.
يقول الشاعر عنها:
بلغت من المفاخر كُلّ فخر وجاوزت الكلام فلا كلاما
إذا نزلت منازلها قريش نزلتِ الأنف منها والسناما
تُقى وسماحةٌ وخلوصُ مجدٍ إذا الأنساب أخلصت الكراما
ولقد أفاض كثير من العلماء والفقهاء والمحدثين المنصفين في الحديث عن مناقبها وخصالها الحميدة.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله، وهو من أعظيم العلماء المنصفين، محدثاً عن زوجها الخليفة العظيم هارون الرشيد.
كان شهماً شجاعاً حازماً جواداً ممدوحاً فيه دين وسُنّة وتخشُّع، وكان يخضع للكبار ويتأدب معهم، وله مشاركة قوية في الفقه وبعض العلوم والأدب.
وحري بزوجه التي حفرت الآبار في طريق الحج وجلبت المياه إلى مكة من أماكن بعيدة تسهيلاً للحجاج كي يشربوا ويرتاحوا ان تكون صفاتها كصفاته وعظمتها كعظمته.
إنها زبيدة بنت جعفر بن المنصور (جدها أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني) عباسية هاشمية قرشية وتكنى أم جعفر.
أما اسمها فهو أمة العزيز بنت جعفر ويقال إن اسمها أمة الواحد، ولقبها زبيدة والذي أعطاها لقبها هذا هو جدها الخليفة (أبو جعفر المنصور).
وكان مولد زبيدة قُبيل منتصف القرن الثاني الهجري في سنة 145/هـ بقصر حرب بالموصل، وفتحت عينيها وهي ترفل في أحضان النعم والخيرات، وقد حباها الله جمالاً وبياضاً وألقى محبتها في قلب جدها أبي جعفر المنصور الذي كان يحبها حباً شديداً، وهو الذي أطلق عليها لقب زبيدة (كما ذكرنا) فقد كان يلاعبها فيرقصها وهي صغيرة ويقول لها: إنما أنت زُبيدة لبياضها ونضارتها، فغلت عليها ذلك فلا تُعرف إلا به، أما والدة زبيدة فتدعى "سلسبيل".
هذه السيدة العظيمة رافقتها السعادة في حياتها منذ ولادتها إلى آخر يوم في حياتها. فقد تفردت في مزايا باهرة لم تحظ بها امرأة سواها، فهي امرأة تعدّ تسعة من الخلفاء كلهم لها محرم.
فزوجها: أبو جعفر هارون الرشيد أشهر خلفاء الدنيا، وابنها محمد الأمين خليفة وابن زوجها المأمون خليفة، وابن زوجها الآخر: المعتصم خليفة أيضاً، وكذلك ابنا ابن زوجها: الواثق والمتوكل كل واحد منهما خليفة، وعمها المهدي أيضاً خليفة وجدها المنصور خليفة وعم أبيها أخيراً هو الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح، كما ان ابن عمها الهادي كان خليفة أيضا.
ومن الفضائل التي تتزين بها زبيدة أنه ليس في بنات هاشم عباسية ولدت خليفة إلا هي، وما ولي الخلافة هاشمي ابن هاشمية سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومحمد الأمين ابن زبيدة.
أما كيف اقترن هارون الرشيد بزبيدة فإن هاروناً كان من المحبوبين المقربين إلى جده وأبيه، وقد رأى في زبيدة امرأة تجمع فضائل النساء ونسباً عالياً لا يرقى إليه نسب وجمال يتحلى بالفضيلة والعصم والعفاف لذلك سارع إلى خطبتها وعقد عليها سنة 165/هـ وأقام لها عرساً عظيماً في قصره المسمى قصر الخلد في بغداد، وفرق بهذه المناسبة الأموال الكثيرة تيمناً بهذا الزواج.
ويروى عن زبيدة أعمالاً كثيرة كانت تقوم بها كلها أعمال خير ومكارم تسبق إليها الجميع.
فقد كان لزبيدة مع ما أتاها الله من الجمال وفضائل النفس، حظ من الثراء أيضاً، وثراؤها في حياة أبيها وجدها ثم زوجها، لذلك كانت شغوفة بصنائع المعروف وإعانة الملهوف.
وتروي المصادر قصصاً كثيرة عن أنباء مروءتها، وتشيد بمعالي مكارمها، وبعراقة أصلها ونبلها.
ومما يروى عن مروءتها أن داود كاتبها قد وضع في الحبس وكيلاً لها، وقد وجب على هذا الوكيل في حسابه مئتا ألف درهم.
ومكث الوكيل في الحبس بضعة أيام أجال فكره فيمن يكتب لهم من أصحابه كيما يخرجونه من غيابات السجن، وهداه تفكيره إلى صديقين له وهما: عيسى بن فلان، وسهيل بن الصباح، فكتب لهما ويرجوهما أن يذهبا إلى وكيل زبيدة داود ليتكلما في أمر دينه وحسابه.
وركب الرجلان إلى داود، وبينما هما في طريقهما إليه، لقيهما الفيض ابن أبي صالح. وكان وزير المهدي. فسألهما الغيض وقال: ما خطبكما؟
قالا: نحن ذاهبان إلى داود كاتب زبيدة من أجل وكيلها.
فقال لهما الغيض: أتحبان أن أكون معكما وفي صحبتكما.
قالا: حبا وكرامة.
وانطلق ثلاثتهم إلى داود، وكلموه في إطلاق الرجل. فقال داود: ليس الأمر بيدي، وإنما أكتب إلى أم جعفر أستشيرها، وكتب إليها يعلمها خبر القوم، وسبب حضورهم ومسألتهم في إطلاق الوكيل.
وقرأت أم جعفر الرقعة، فوقعت منها بأن يعرفّهم داود بما وجب على الوكيل من المال، ويعلمهم أيضاً أنها لا سبيل إلى إطلاقه دون أن يؤدي ما عليه من المال. وقرأ ثلاثتهم ما وقّعته زبيدة على الرقعة، وهنا قال صديقا الوكيل عيسى وسهل: لقد قضينا حق الرجل، ووفينا بما وعدناه من ذهاب إلى داود، وقد رفضت أم جعفر أن تطلق صاحبنا إلا بالمال، فقوموا ننصرف.
وساء هذا الكلام الفيض بن أبي صالح فقال لهما: يا هذان، كأنا أتينا إلى ههنا لكي نؤكد حبس الرجل، أيس كذلك؟ فقالا له: وماذا نصنع إذاً؟!
فأجابهم الفيض والمروءة تغيض من عباراته: نؤدي عنه المال، ونخرجه من الحبس، ونكشف عنه ضائقته.
ثم غن الغيض أخذ الدواة، وأمسك بالقلم، وكتب إلى وكيله في حمل المال عن الرجل، ودفع بالكتاب إلى داود كاتب أم جعفر، وقال: قد أزحنا علتك في المال فادفع إلينا صاحبنا، وأسقط في يد داود ما رأى، وقال للفيض: عذرا سيدي، فلا سبيل إلى ما طلبت حتى أعرّف أم جعفر الخبر.
وكتب داود إلى زبيدة بالخبر، فوقعت في أسفل رقعته: أنا أولى بهذه المكرمة من الفيض بن أبي صالح، فاردد عليه كتابه بالمال، وادفع إليه بالرجل، وقل له لا يعاود مثل ما كان عليه.
وفي سنة 186هـ قررت زبيدة أداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وكان زوجها هارون الرشيد قد عزم على أداء فريضة الحج أيضاً. ولما مشى الخليفة الرشيد إلى مكة، ومشت معه زوجه زبيدة، كان معه جماعة من الخدم تبسط السجاد أمامهم ثم تُطوى خلفهم وكانت تسمى تلك السجاجيد "الدرانك" فلما أعياهم الأمر دعا بخادم له، فألقى ذراعه عليه وتأوه، وقال: والله لركوب حمار شموس خير من المشي على الدرانك.
ووصلت زبيدة الحرم، وقضت مناسك الحج، وقضت مناسك الحج، ورأت ما يقاسيه أهل مكة، وضيوف الرحمن من مصاعب، ومتاعب في حصولهم على ماء الشرب، فتأثرت لذلك كثيراً، وحزّ في نفسها ما يعاني أحباب الله من أجل شربة ماء، فقد بلغت شربة الماء ديناراً في ذلك العصر.
هنالك تحركت بواعث الخير في نفسها، وشمرت عن همة عالية لتسقي أهل مكة والحجاج الماء فكانت نفسها كما قال الشاعر المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
وفكرت زبيدة في وسيلة لجلب المياه إلى الحرم حتى اهتدت إلى ذلك، فدعت خازنها وأوحت إليه أن يأتي أهل الصناعة، وأن ينفّذ مشروع شق قناة في وسط الجبال وبين الصخور حتى يصل بالمياه إلى وسط مكة وإلى الحرم.
وسارع خازنها فأحضر الخبراء والعمال، ومن له دراية بهذا العمل الكبير، وبدأ هؤلاء في تنفيذ عملهم حيث اعتمدوا على عين تسمى "عين حُنين" وعلى المياه الجوفية من حولها.
ولم يكن العمل بسيطاً، وعلينا ان نتصور مدى صعوبة هذا العمل عصر ذاك. يقول المؤرخون: إن زبيدة أسألت المياه عشرة أميال بخط الجبال، وتحت الصخور حتى أوصلته إلى الحرم.
ومن أهم أعمال زبيدة المعروفة في مجال مساعدة الحجيج هو حفرها لعين "زبيدة:" المعروفة باسمها، وهي عين عذبة الماء غزيرة مباركة، وهي من أجل الأعمال التي قامت بها، وأعظمها وأكثرها بركة ونفعاً، وهي تنبع من وادي نعمان، وقد أجرت لها الطريق، ومهدتها لها، حيث تبدأ انطلاقتها من نعمان (وهو واد من أكبر الأودية) في مكة المكرمة، ثم تمر بعرفات، فتقطع وادي عُرنة إلى الحظم ثم تنحدر إلى منى، ثم إلى مكة.
وقد كان العديد يعانون من قلّة الماء، وارتفاع ثمنه قبل وجود هذه العين، فجاءت هذه العين ماءً بارداً على الظمأ، وسُقياً طيبة تروى غلة الحجاج، وأصبح اعتماد الحجاج عليها، واستمر ماؤها المتدفق مئات السنين، ولا يزال إلى اليوم.
إلا أن مجرى العين القديم قد هُجر، وحُول إلى أنابيب ضخمة متطورة، ولها اليوم في مكة إدارة خاصة بها تسمى "إدارة عين زبيدة".
وقد كلف العمل الذي قامت به السيدة زبيدة، رحمها الله، ما يقرب من مليوني دينار، ولكن كل هذه الأموال التي أنفقتها لم تبعث في نفسها إلا سروراً وسعادة لأنها استطاعت أن تقدم إلى زوار بيت الله الحرام ما يخفف عنهم قسوة الرحلة وشدتها.
يروى الخطيب البغدادي بسنده عن عبد الله بن المبارك أنه قال: رأيت زبيدة في المنام، فقالت: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر الله لي بأول معول ضُرب في طريق مكة.
وتروي المصادر مدى صدقها في عملها الخير وإنفاق الأموال في سبيل ذلك فيقال: إن وكيلها حضر إليها في بعض الأيام عندما كان العمل في استخراج الماء إلى مكة قائماً وقال لها: يا أم جعفر قد صُرف إلى الآن نحو أربعمئة ألف درهم، فقالت له بحزم وقوة: يا هذا ما أردت بهذا القول إلا أن تعنّفني وتغرس الندم في نفسي، أو تمنعني من الخير، اذهب، واصرف، وتمم العمل، ولو كان أضعاف ذلك.
ولما انتهى العمل جاء الوكيل إلى زبيدة، وأحضر العمال بين يديها لكي يكتبوا الحساب أمامها وما كلفته تلك الأعمال الجسام فقالت لهم قولة مشهورة: خلوا الحساب إلى يوم الحساب، ثم أمرت بغسل الدفاتر والأوراق.
ولم تكتف زبيدة بعملها هذا وإنما امتدت يدها بالإحسان إلى كل مكان فأصلحت الطرق وأوجدت المرافق والمنافع للعباد في طرق أسفارهم.
وحفرها الآبار في الطريق من بغداد إلى مكة أمر يعرفه القاصي والداني.
وقد وصف الكثير من الشعراء الأعمال العظيمة التي قامت بها تلك السيدة العظيمة فمما قاله أحد الشعراء الراجزين عندما حفر الآبار:
ثم ترحّلنا إلى الشقوق مُنيزلٌ في مائه ذي ضيق
قد كاد أن يقطع بالفريق لولا فِعال البرة الصدوق
وما نعانيه من الطريق لم يك للحجاج بلُّ الرّيق
لكنها أجرت بكلّ نيق ماء عيون شبه البثوق
أو نقب بئر ناتق عميق يروي ذوي الحج وأهل السوق
ويتابع في قصيدة أخرى مادحاً عملها وكيف أنها كانت تحفر في كل مكان تنزل فيه بئراً لسقاية الحجيج:
ثم نزلنا منزلاً بالأجفر بعد طريق خشن مُوعّر
سهّله الله بأم جعفر مضار موروداً حميد المصدر
رمي بعذب الطعم مثل السكر وراجل أشعث شعر أغبر
جادت له بفضة وجوهر ساقيةٌ الحجاج ذات المفخر
طوبى لها يوم الجزاء الأوفر زبيدة طوبى لأم جعفر
ويتابع الشاعر فيرجز لها في كل منزل ينزلونه وتحفر فيه بئراً قصيدة يمدح فيها عملها.
رحم الله هذه السيدة العظيمة فقد عمت أعمالها كل مكان فوق أرض الدولة العربية في زمن الرشيد العظيم.
ولقد كانت بالإضافة إلى ذلك سيدة كاملة الصفات من ثقافة وعلم وأدب ودين فجمعت بذلك المجد من أطرافه.
د عبد الحميد ديوان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق