الاثنين، 20 سبتمبر 2021

حتى تكون أشعار الشاعر التونسي القدير جلال باباي* نفيا للموت..ونشدانا للحياة بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حتى تكون أشعار الشاعر التونسي القدير جلال باباي* نفيا للموت..ونشدانا للحياة

ليس للكتابة من جدوى بلا همّ إنسانيّ كبير،ومن غير معاناة مخيلة حية للتعبير عن هذا الهم..هي انغمار متواصل للتنقيب عن كل ما ينفع منظومة البث على أداء دورها بكفاءة عالية، تغري منظومة التلقي على القراءة المنتجة للتأويل.وبوصفها إجابة لأسئلة وجودية كبيرة،تستدعي مخيلة ذات دربة اشتغال تمنحها القدرة على إنتاج نصوص تنم عن جهد معرفي بيّن.
هناك في البرزخ القائم بين حياة يحياها وأخرى يحلم بها،يقيم الشاعر التونسي الكبير جلال باباي على تخوم الردهة المضاءة المسماة كتابة،مستمتعا بجحيم هذا الإنحدار الروحاني،يبحث عن لسعة نار ولو أحرقته،يعانق الشمس فقط كي يزرع حقول الأمل والبهجة والإنعتاق..يرفض الإنحناء أمام الليالي العاصفات مهما أوغلت في الدياجير..يحاور روحه
المتوهجة،الخفاقة،المحلقة،المتمردة و الموغلة في عوالم الصفاء والإشراق والتجلي.
.يرفض التدثر بعباءة المؤسسة..يحلم بالإنفلات من عقال الوهم والخديعة ويؤسس للتوحد مع ذاته والكون..ينخر المواجع شفيف روحه أحيانا،فيلجأ إلى أبي القاسم الشابي حين يقول:”إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسي الجميلة”..
وأنا أضيف: هذا المبدع التونسي الفذ(جلال باباي) الملتحف بمخمل الليل الجريح..هذا المبدع المتورّط بوجوده في زمن ملتهب..إنما هو طائر غريب حطّ على غير سربه..
ينال منه أحيانا الحزن حد الوجع..وتنبجس الكلمات من ضلوعه رمادية كي تحلّق في الآقاصي وتخترق سجوف الصمت والرداءة..
هوذا جلال باباي كما أراه في مثل زمن بائس كهذا..وها أني أسمع نشيجه في هدأة الليل وهو يبكي زمانا تحوّل فيه المبدع إلى -حلاّج عصره-محترقا بنار التجاهل واللامبالاة واللإعتراف..
وها أني أسمع بين الحين والآخر صراخه وقد بلغ به الآسى حدا لا يتاق:أنا الجمال..أنا العمق..وأنا الصفاء حد الإنبهار والتجلي..
ولكن هذه العزلة التي وضعته الأقدار فيها إستحالت -بقدرة قادر-فنا وبرجا أزتيكيا منتجا وخلاّقا..وانخراطا طفوليا لنداء يأتي من بعيد موحشا و عذبا..
هوذا جلال باباي -كما أراه-يرقص رقصة”زوربا اليوناني”..تلك الرقصة التي تعانق برمزيتها سماوات المجد والخلود..ولا أظن أنّه سينزعج إذا أحسّ بأيد ملائكية ناعمة وهادئة تطرق باب عزلته بهدوء ورقة ووضوح..لتنخرط معه في رقصه الطفولي وتتقاسم معه لذة الصمود والتحدي..ومن ثم يلجان معا عوالم الماوراء بحثا عن نبتة الخلود،ورفضا لمتاهات الفراغ العدمي وتأسيسا لحياة موشاة ببهاء الكلمة،جسارة السؤال وجمال الحيرة ليخلدا معا خلودا جلجامشيا في أحضان التاريخ..
والسؤال الذي ينخر شفيف الرّوح:
هل يزدهر الإبداع في أرض يباب جرداء؟!..
قطعا..لا..ذلك أنّ الإبداع لا ينهض ولا يزدهر إلا في مناخ مناسب ومشجّع،وثمة الكثير من ضروب الإبداع تتقلّص وتندثر حين يكفّ المجتمع عن العناية بها ولا يبدي حاجته لها..
وإذن؟
هناك دائما جدل خلاّق بين الإبداع في تجلياته المشرقة،وحاجة المجتمع إلى ذلك الإبداع،هو جدل الإثارة والإستجابة الذي يربط بين طرفي العملية الإبداعية:المجتمع والمبدع..وبإنفصام عرى هذه العلاقة..يتدحرج الإثنان صوب مهاوي الضياع،حيث لا شيء غير الندم..وصرير الأسنان..
ويظل في الأخير المبدع التونسي الكبير جلال باباي..شامخا شموخ الرواسي أمام أعتى العواصف..
وتظل أيضا أشعاره العذبة نفيا للموت ونشدانا للحياة..
محمد المحسن
*الشاعر التونسي القدير جلال باباي شاعر معاصرأصيل منطقة تفتح ذراعيها للمتوسط تحضنه تاريخا و جغرافيا،حضارة وإبداعا وهي مدينة أكودة من ولاية سوسة.
له الكثير من الإنتاج الأدبي الموسوم والمميز بنفس الشاعر وبأسلوبه المختزل المختزن الذي لا يستغرق زمنا طويلا في قراءته،لكنه يحتم على القارئ الوقوف طويلا عند الإبحار في عالمه وخياله ودلالة معانيه،فهو قليل كثير،وسهل ممتنع،يستعصي على غير المكتنزين بذلك المعجم اللفظي والدلالي والأسلوبي للشاعر،فقصيدته في كثير من الأحيان ومضة بارقة تبعث حكاية البارق النجدي عند الصوفيين في المخيلة حين يمتزجون ويتحدون مع الذات الإلهية وفق تعبيرهم ومعتقدهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق