عشبة الضوء الأخيرة بين همس الظلال والغربة المزدحمة
الباحثة والناقدة :دآمال بوحرب(تونس )
الشاعرة :زينب غسان البياتي (العراق )
يُعد الشعر العربي الحديث الذي نشأ في أوائل القرن العشرين تحولاً جذرياً في التعبير الأدبي مستلهماً من التأثيرات الغربية مثل الرومانسية والرمزية مع الحفاظ على جذور عربية عميقة. يتميز هذا الشعر بتجديد الشكل كالتحرر من القافية التقليدية نحو الشعر الحر أو التفعيلة كما أرسى أسسه شعراء مثل نازك الملائكة في ديوانها “عاشقة الليل” وبدر شاكر السياب في “أساطير " من حيث المضمون يركز على هموم الإنسان المعاصر مثل الاغتراب الوجودي والقلق من الحروب والبحث عن الحرية والانتماء مع لجوء إلى الرمز والأسطورة لاستكشاف أعماق النفس والكون. على سبيل المثال يستخدم في “أنشودة المطر” – التي اعتبرت أفضل قصيدة عربية في القرن العشرين – المطر رمزاً للخصب والأمل في مواجهة الجفاف والخراب قائلاً: “عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر أو شُرْفَتانِ تطلّعانِ على البَحْر” معتمداً على الأساطير البابلية ليجسد الصراع الإنساني. كذلك يعكس أدونيس في قصائده مثل “قبر من أجل نيويورك” الاغتراب الحضاري بينما يغوص محمود درويش في “سجل أنا عربي” في المنفى والفقدان قائلاً: “سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف” مشدداً على الهوية المفقودة في زمن الصراعات. هذا الاتجاه يتجلى في استخدام الأسطورة كملحمة جلجامش لاستكشاف الموت والخلود كما في أعمال عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة حيث تصبح الأسطورة أداة للتعبير عن الجروح النفسية والوجودية ممهدةً لقراءة قصيدة دآمال بوحرب في سياقها.
في هذا السياق تُقدّم قصيدة زينب المؤرخة في 16 أغسطس 2025 لوحة شعرية مكثفة تُغوص في أعماق الاغتراب الوجودي حيث تتحول “عشبة الضوء الأخيرة” إلى رمز مركزي يجسد البحث عن بريق أمل هش في مواجهة الفراغ والعتمة مستلهمةً من الأسطورة السومرية كما في شعر السياب. من منظور فلسفي تتردد في النص أصداء الوجودية مع لمسات من ملحمة جلجامش كرمز للصراع الأبدي ضد الموت والفقدان بينما نفسياً تكشف القصيدة عن طبقات اللاوعي الجمعي والفردي في رمزية الظلال والأنا وفي الارتجافات المكبوتة والجروح الدفينة. سنقرأ النص خطوة بخطوة مركزين على رموزه الرئيسية ودلالاتها المزدوجة لنكتشف كيف يبني الشاعر عالماً داخلياً يعكس الواقع الخارجي.
الاغتراب في الزحمة
تبدأ القصيدة بـ”فِي غربةِ الزَّحمة حيثُ الفراغاتُ تضعُ أعذارها كحجارةٍ فِي طريقِ العابرين” مقدّمةً الاغتراب كحالة جماعية في عالم مزدحم يفقد فيه الفرد سكونه فلسفياً يذكّر هذا بالوجود عبئاً ثقيلاً والفراغات “أعذاراً” تُبرر عدم التواصل الحقيقي بينما نفسياً يُمثل القلب الذي “يلتفتُ خلفهُ ليبحثَ عن سكونٍ ضائعٍ” بحثاً عن الذات المفقودة في اللاوعي كما في مفهوم الظل الذي يُطارد الإنسان في الزحمة. النظرة التي “تولدُ” هنا لحظة إدراك وجودي: “تستعيرُ من عتمةِ الأفقِ نبوءةَ خُذلان” ترمز إلى الوعي بالعبث حيث يصبح الخذلان نبوءة ذاتية والارتجافة “الناعمة” كـ”اعتذارُ اللحظاتِ المنسيّة” تكشف عن آلية دفاع نفسية حيث يُداري الإنسان جروحه بالنسيان لكنها تُوقظ “جرحاً فِي خاصرةِ الصمت” ممهدةً للتشظي اللاحق.
التشظي والالتئام
في “نظرةٌ .. تهوي مثلَ زجاجٍ مكسور تتشظّىٰ بملحَةِ لمسٍ” يتحول الزجاج المكسور إلى استعارة للذات المتشظية عن الكسر كطريق للولادة الجديدة لكن الالتئام يأتي “بلذعةِ غفوةٍ” توقظ الجرح مما يعكس نفسياً دورة الاكتئاب والإنكار: اللمس “لا يُجيدُ غيرَ فضِّ أسرارِ الحواس” يُمثل الغريزة الحسية كقوة مدمرة ومُعيدة بناء كما في نظرية الطاقة المكبوتة. الطوفان الذي “يتردّدُ أن يُجاري البحر” يرمز إلى الصراع مع اللانهائي: البحر كرمز للعدم لا يعرف العذر و”لا يُتقنُ سوىٰ الغرق” دلالة على الاستسلام الوجودي أمام الموت وهنا تبرز “عشبة الضوء” كأمل للاندماج لكنها مهددة بالعتمة مما يربط الجرح الشخصي بالفقدان الأسطوري.
البراءة المفقودة والأمل الهش
“بذورُ صبيّةٍ تتلمّسُ الطريقَ إِلىٰ عشبةِ ضوء وَ تخشىٰ أن تلمسها العتمة” – هذا الرمز المركزي يجسد الطفولة الداخلية بحثاً عن نور في الظلام فلسفياً يتردد صدى ملحمة جلجامش الذي يبحث عن عشبة الخلود في أعماق البحر ليفقدها في النهاية لصالح حكمة الموت. الفرح “المختنق” الذي “يذوبُ بألمٍ” أو “يختنقُ بضحكةٍ بلا ملامح” يكشف عن تناقض الأنا بين الوعي واللاوعي والوشاح “الهشّ” على “كتفِ ظلٍّ” يُمثل الذات الظليلة واليد الخفيفة كلمسة مصيرية تُعثر الظل دلالة على هشاشة الوجود مما يعزز الربط بين البراءة والفقدان الأبدي.
الملحمي في الشعري
يطلّ جلجامش “من أمسيتهِ البعيدة وَ يمدُّ يدًا من ملحمةٍ إِلىٰ وسادةِ شعر” محولاً الملحمة القديمة إلى وسادة حديثة للسماء – رمز للأحلام واللاوعي والوسادة كـ”رأسًا ثانيًا للسماء” تُشير إلى ازدواجية الأنا والإعصار الذي يتحول إلى “مطرٍ مُشتهىٰ” يعكس فلسفة التغير حيث يصبح الألم مطرًا خصبًا لكنه بلا “غزلِ تين” أو “شموخِ زيتون” – رموز شرقية للخصب والصمود – مما يؤكد الفقدان الثقافي في المنفى. المطر يبحث عن “صدرِ صباحٍ … بلا كلمةٍ تعثرَ بها لسانُ الخلود” دلالة على عجز اللغة عن احتواء الخلود كما في التأجيل الأبدي مما يمهد لأزمة اللغة في الفقرة التالية.
غربة اللغة والشاعر
“الكلمةُ تقفُ عندَ الحرفِ الرابع خجلىٰ” – هنا تتحول اللغة إلى كيان حي يتردد في البوح رمزاً للعجز الإنساني أمام التعبير فلسفياً يذكّر باللغة بيت الكينونة لكنها هنا غربة “أكثرَ اتساعًا من نصٍّ” نفسياً الشاعر الذي “يتعقّبُ ظلَّهُ فِي مرآةٍ بلا زجاج” يُمثل أزمة الهوية كفقدان المرآة التي تعكس الذات. الغربة تصنع “من الزحمةِ معبدًا وَ من المعبدِ منفىٰ وَ من المنفىٰ قصيدةً” – دورة ديالكتيكية تنتهي بالقصيدة كصرخة تنادي نهرًا “غرقَ فِي نفسه” رمزاً للذات الغارقة في عبثها مما يعمق البعد الوجودي.
مواجهة العبث والموت في ضوء القصيدة
يبرز البعد الوجودي في القصيدة كصراع أساسي مع العبث والموت حيث يتحول الاغتراب إلى حالة كينونية أصيلة تُجبر الإنسان على مواجهة حريته المرعبة ومسؤوليته عن معنى وجوده. يتجلى ذلك في “عشبة الضوء الأخيرة” كرمز للأمل الذي يُسرق دائمًا كما في ملحمة جلجامش مما يقارب أسطورة سيزيف عند ألبير كامو حيث يدحرج الإنسان الصخرة إلى الأعلى لتتدحرج من جديد معلناً أن “يجب أن نتخيل سيزيف سعيداً” رغم العبث. كذلك يتردد صدى جان بول سارتر في مفهوم “الوجود يسبق الجوهر” إذ يصبح الإنسان محكوماً بحريته في عالم بلا معنى مسبق فالنظرة “تهوي مثلَ زجاجٍ مكسور” تعكس القلق الوجودي أمام الفراغ والخذلان الذاتي. أما مارتن هيدغر فيؤكد في “الكينونة والزمان” على الـ”دازاين” ككينونة في العالم مع الآخرين لكن القصيدة تحول الزحمة إلى غربة تحول دون الأصالة فالكلمة “تقفُ عندَ الحرفِ الرابع خجلىٰ” تعبر عن سقوط اللغة في الـ”ثرثرة” غير الأصيلة. هكذا يجمع النص بين اليأس الوجودي والدعوة إلى خلق المعنى عبر الشعر كفعل مقاومة للعدم ممهداً للخاتمة.
القراءة الفنية للقصيدة
تتبنى القصيدة شكل الشعر الحر دون قافية ثابتة أو وزن تقليدي مما يمنحها حركة داخلية تُشبه نبض القلب المتسارع في الزحمة والسطور القصيرة والمتفاوتة الطول – مثل “نظرةٌ ..” أو “ثُمَّ ..” – تعمل كفواصل تنفسية تُحاكي الارتجاف النفسي وتُكسر الإيقاع لتعكس حالة التشظي بينما الفراغات البيضاء بين الأبيات ليست عشوائية بل هي “حجارة في طريق العابرين” كما تقول الشاعرة فتُصبح جزءاً من المعنى البصري يُجسد الفراغ الذي يُهدد الذات وهذا الشكل يذكّر بتجارب السياب في “أنشودة المطر” حيث يتحرر الإيقاع ليُعبر عن الفوضى الداخلية لكنه هنا أكثر كثافة وتركيزاً على اللحظة الواحدة مما يُمهد للاستعارة المركزية التي تُبنى عليها البنية كلها. “عشبة الضوء الأخيرة” ليست مجرد عنوان بل قلب القصيدة فنياً إذ تُحوّل الشاعرة النبات الأسطوري من ملحمة جلجامش إلى كيان حيّ يتنفس في الظلام بصرياً كضوء خافت يُكافح العتمة كما في “بذورُ صبيّةٍ تتلمّسُ الطريقَ إِلىٰ عشبةِ ضوء” وحسياً كلمسة ناعمة مهددة بالتلاشي “وَ تخشىٰ أن تلمسها العتمة” ووجودياً كأمل يُولد من الفقدان نفسه كما في التحول من الإعصار إلى “مطرٍ مُشتهىٰ” وهذه الاستعارة تتطور عبر القصيدة من بذرة إلى نبات إلى ضوء إلى بوح مما يُشكل منحنى درامياً داخلياً يُشبه دورة حياة الإنسان ويربط الشكل بالصورة في نسيج متماسك. تُسيطر الصور البصرية المُشظّاة على النص فالزجاج المكسور “تهوي مثلَ زجاجٍ مكسور” يُجسد انهيار الذات ويعكس الضوء في اتجاهات متضاربة تماماً كالذاكرة الممزقة بينما الظلال تتكرر ككيان مستقل “كتفِ ظلٍّ” “يتعقّبُ ظلَّهُ” لتُصبح الظل شريكاً في الحوار مع الأنا مما يُذكر بتقنية “الدوبلغانغر” في الأدب الرومانسي والمرايا المفقودة “مرآةٍ بلا زجاج” تُلغي الانعكاس وتُجبر القارئ على تخيّل الذات بدلاً من رؤيتها مما يُعزز التجريد ويُكمل الاستعارة المركزية بطبقات بصرية تُعمق الإحساس بالاغتراب. رغم غياب القافية تُبنى موسيقى داخلية عبر التكرار الصوتي “ت” في “تتلمّسُ… تخشىٰ… تلمسها” يُحاكي خطوات حذرة والصدى الأسطوري “جلجامش… يمدُّ يدًا” يتردد كصدى بعيد يُقحم التاريخ في الحاضر والسكتات النقاط الثلاث “نظرةٌ ..” تعمل كنبضات قلب متوقفة تُعلق القارئ في الفراغ مما يُضيف طبقة صوتية تُعزز الإيقاع البصري وتُمهد للتقنية السردية. تستخدم الشاعرة تقنية “الإطار المزدوج” إطار ملحمي جلجامش يمد يده من أمسيته البعيدة وإطار شعري إلى وسادة شعر وهذا التقاطع يُحوّل الملحمة إلى حلم شخصي والحلم إلى قصيدة مما يُشكل حلقة فنية مغلقة تبدأ بالأسطورة وتنتهي بالبوح ويربط الإيقاع بالسرد في ديناميكية متصلة. تتحرك الإضاءة درامياً من العتمة السائدة “عتمةِ الأفقِ” “تلمسها العتمة” إلى الوميض المفاجئ “عشبةِ ضوء” “مطرٍ مُشتهىٰ” ثم الغياب النهائي “بلا كلمةٍ تعثرَ بها لسانُ الخلود” حيث يتلاشى الضوء في اللغة نفسها مما يُكمل الدورة الفنية ويُؤكد على التحول المستمر. “عشبة الضوء الأخيرة” لوحة مُشظّاة تُجسد الذات المعاصرة في لحظة انهيارها وإعادة تكوينها فكل عنصر فني – من الشكل إلى الصورة إلى الإيقاع إلى السرد إلى الإضاءة – يعمل كجزء من آلية دفاعية تحول الألم إلى جمال والقصيدة لا تُروي قصة بل تُعيد خلق تجربة تجربة الاغتراب كفعل إبداعي حيث يُصبح الجرح نفسه مصدر الضوء.
خاتمة عشبة الضوء أفق مفتوح
في النهاية “عشبة الضوء الأخيرة” رمز للذات الكلية مهددة بالعتمة لكنها تُولد من التشظي والقصيدة تُعلن أن الاغتراب معبداً للقصيدة حيث يتحول الغرق إلى بوح.
الشاعرة تُقدم رؤية فلسفية نفسية عميقة: في عالم الزحمة يبقى الضوء الأخير في قدرتنا على الاعتراف بالجرح مستلهمةً جلجامش لتؤكد أن الخلود في الشعر الذي يُعيد خلقها وهذا النص دعوة للتأمل في هشاشتنا كي نجد في المنفى وطناً من الكلمات.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق