السبت، 22 نوفمبر 2025

قراءة لقصيدة حيفا للأستاذ الناقد الشاعر الدكتور محمد سليط بقلم الأديب طه دخل الله عبد الرحمن

 قراءة لقصيدة حيفا للأستاذ الناقد الشاعر الدكتور محمد سليط 21-11-2025

القصيدة:

حيفا

سألتُ عنها زهر شجر الكُباد

وسألتُ ما تبقى من ماء

في بردى

والمشمش والدراق

في البانوراما وشارع العشاق

من هو راحل

ومن هو باق

سألت جدران البيوت القديمة

في حي العمارة والقنوات

وقفت أراقب الطرقات

هنا عند أطراف الغوطة الشرقية

كان يلعب الصغار

لكنني لم أسمع الضحكات

جمعت تفاصيلي

قصدت داريا ومطعم الشاميات

لم أجد داريا ولا المطعم

فقط وجدت رجلاً عجوزاً

مرة يضحك وأُخرى يطلق

الآهات

ركبت سيارة أجرة قديمة

أشعر أنها بلا عجلات

السائق العنوان

قلت جوبر

عبس وحزن أصابته في لحظة

آلاف الغصات

هناك بيتنا الدمشقي وتينة خضراء

ثمارها عندما تنضج تتفتح كما البتلات

قال سقطت الشجرة

وأسقطت الجدران

قلت جدران البيت

قال كل الجدران كأنه

يرافقها بركان

قفلتُ عائداً لعمان

استيقظتُ من غفوتي عند معبر نصيب

ختمت جواز سفري مغادراً

معه ملصق لخارطة الوطن العربي

عليها علامات

ممنوع من السفر لهذه البلدان

صرخت وحيفا مدينة أجدادي

صاحت عجوز يا بني

ردد معي كان يا مكان

أشار إلى أحدهم عمن كنت تبحت

اجبت

عن طارق بن زياد

بقلم الشاعر والناقد الأردني

د محمد سليط

***********************************  

القراءة:

أيها القارئ الكريم أضع بين يديك قراءة لهذه القصيدةِ الوجدانيّةِ التي تفجَّرَتْ مِنْ أعماقِ شاعرٍ أردنيٍّ مُحنَّكٍ، كأنَّما هي أنشودةُ المشرَّدينَ، وصرخةُ الحُرِّ في زمنِ الذُّلِّ، كنهر من الأسى يسيل بين خرائب الذاكرة فاقبَلْها منِّي نثرًا يُحاكي جمالَ شعرِهِ، ويُفصِحُ عن بلاغةِ معانيهِ:

أيَّتُها القصيدةُ، يا مَنْ تحملُ في أحشائِها نارَ الحنينِ، وبردَ اليُتمِ!

لقد استهلَّ الشَّاعرُ قصيدتَهُ باستفهامٍ وجوديٍّ، كأنَّه سؤالُ طفلٍ فقدَ أمَّهُ في زحمةِ السُّوقِ! "سألتُ عنها زهر شجر الكُباد" – فالكُبادُ هو شجرُ الأسى، وزهرُهُ هو دمعُ الأرضِ، وكأنَّما الشَّاعرُ يبحثُ عن بصمةِ ألمٍ تُشْبِهُ ألمَهُ. وكأنه يبني هرمًا من الحزن قاعدته الأسئلة وقمته الكارثة.

"وَسَأَلْتُ مَا تَبْقَّى مِنْ مَاءٍ فِي بَرْدَى" – والنَّهرُ هنا ليس مجرَّدَ ماءٍ، بل هو شريانُ الذَّاكرةِ، فإذا جَفَّ، جَفَّتِ الأحلامُ. ثمَّ ينسابُ السُّؤالُ كالنَّدَى على ثمارِ المشمشِ والدُّرَّاقِ، تلك الثِّمارُ التي صارتْ أحجيةً في "بانوراما" الزَّمنِ الضَّائعِ. فالسؤال عن "ما تبقى من ماء في بردى" استقصاء لجوهر الحياة، فالنهر هنا ليس مجرد مجرى مائي، بل هو شريان الذاكرة الجمعية، وعندما يجف النهر تموت المدن كما تموت الكائنات.

يا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ مَأساوِيٍّ!

يقفُ الشَّاعرُ كطائرِ الفينيقِ في أطلالِ "حيِّ العمارةِ"، يرقبُ الطُّرقاتِ التي صارتْ مقابرَ للضَّحكاتِ. إنَّهُ يبحثُ عن طفولتِهِ بينَ أطرافِ الغوطةِ، فيسمعُ صمتًا يُطَبِّلُ لهُ رنينُهُ في الأذُنِ. ثمَّ يذهبُ إلى "داريا" و"مطعم الشَّامياتِ"، فلا يجدُ سوى عجوزٍ يضحكُ كالطَّبلِ الأجوفِ، ويئنُّ أنينَ الحجارةِ تحتَ المطرقةِ.

في الصور الفنية والبلاغية المتتابعة:

لقد قدّم الشاعر لوحات متعاقبة تكشف عن تدهور الواقع بالتدريج:

اللوحة الأولى: طفولة مفقودة "وَقَفْتُ أُرَاقِبُ الطُّرُقَاتْ - هُنَا عِنْدَ أَطْرَافِ الْغُوطَةِ الشَّرْقِيَّةْ - كَانَ يَلْعَبُ الصِّغَارْ - لَكِنِّي لَمْ أَسْمَعِ الضَّحَكَاتْ"

هنا يرسم الشاعر صورة مفعمة بالمفارقة الأليمة، فـ"الطرقات" التي يفترض أنها أماكن للحركة والحياة، أصبحت مسرحاً للفراغ والغياب. و"أطراف الغوطة" التي كانت جنة دمشق، أصبحت أطلالاً صامتة. والأطفال الذين كانوا يلعبون، لم يعد يسمع لهم ضحك، وكأن الحرب سرقت حتى براءة الطفولة.

اللوحة الثانية: البحث اليائس عن الذاكرة "جَمَعْتُ تَفَاصِيلِي - قَصَدْتُ دَارِيَا وَمَطْعَمَ الشَّامِيَّاتْ - لَمْ أَجِدْ دَارِيَا وَلَا الْمَطْعَمَ - فَقَطْ وَجَدْتُ رَجُلًا عَجُوزًا - مَرَّةً يَضْحَكُ وَأُخْرَى يُطْلِقُ الْآهَاتْ"

هنا يتحول الشاعر إلى جامع شواهد القبور، "يجمع التفاصيل" كما يجمع المؤرخ قطع الأثر. والعجوز الذي "مرة يضحك وأخرى يطلق الآهات" يمثل الشخصية التراجيدية التي تعيش الانهيار الداخلي، ضحكٌ يشبه البكاء، وآهات تختزل آلام أمة.

في الرمزية العميقة والدلالات الفلسفية:

رمزية السيارة القديمة بلا عجلات: "رَكِبْتُ سَيَّارَةَ أُجْرَةٍ قَدِيمَةٍ - أَشْعُرُ أَنَّهَا بِلا عَجَلَاتْ"

إنها ليست مجرد سيارة، بل هي رمز للوطن العربي العاجز عن الحركة، العظيم في ماضيه، العاطل في حاضره. والشاعر الذي "يشعر أنها بلا عجلات" يمثل الوعي المأساوي بحقيقة الأمة المتوقفة عن السير.

رمزية التينة والسقوط المأساوي: "هُنَاكَ بَيْتُنَا الدِّمَشْقِيُّ وَتِينَةٌ خَضْرَاءُ - ثِمَارُهَا عِنْدَمَا تَنْضَجُ تَتَفَتَّحُ كَالْبُتُلَاتْ - قَالَ سَقَطَتِ الشَّجَرَةُ - وَأَسْقَطَتِ الْجُدْرَانَ"

وَأَيْنَ بَيْتُ الدَّمَشْقِيِّ؟ أَيْنَ التِّينَةُ الخَضْرَاءُ؟

هنا تبلغُ القصيدةُ ذروةَ المأساةِ. فبيتُ الشَّاعرِ لم يُهجَرْ فحسبْ، بل "سقطَتِ الشَّجرةُ"، وكأنَّما سقطَتْ شجرةُ العائلةِ، شجرةُ الانتماءِ. والعجوزُ يُجيبُهُ بِصَوْتٍ كالصَّاعقةِ: "كُلُّ الجُدْرَانِ كَأَنَّهُ يُرَافِقُهَا بُرْكَانٌ" – فالحربُ هنا لي حدثًا عابرًا، بل هي زلزالٌ يبتلعُ الهويَّةَ ابتلاعًا.

والشجرة هنا ليست شجرة تين عادية، بل هي شجرة الحياة، شجرة الانتماء، شجرة الحضارة. وسقوطها ليس سقوطاً طبيعياً، بل هو انهيار كامل. والتعبير "تتفتح كما البتلات" يذكرنا بجمال كان موجوداً، ليؤكد فداحة الخسارة.

في الذروة التراجيدية والمفاجأة الصادمة:

مشهد معبر نصيب: الاستيقاظ من الحلم إلى الكابوس "قَفَلْتُ عَائِدًا لِعَمَّانَ - اسْتَيْقَظْتُ مِنْ غَفْوَتِي عِنْدَ مَعْبَرِ نَصِيبٍ - خُتِمَ جَوَازُ سَفَرِي مُغَادِرًا - مَعَهُ مَلْصَقٌ لِخَارِطَةِ الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ - عَلَيْهَا عَلَامَاتٌ - مَمْنُوعٌ مِنَ السَّفَرِ لِهَذِهِ الْبُلْدَانِ"

إنها صورة مركبة تختزل مأساة الأمة:

· "الغفوة" رمز للوعي المغيب

· "معبر نصيب" رمز للتفتيت والحدود المصطنعة

· "ختم جواز السفر" رمز للاحتلال والوصاية

· "الخارطة الممنوع السفر إليها" رمز للوطن المحظور على أبنائه

الصرخة المدوية: "صَرَخْتُ وَحَيْفَا مَدِينَةُ أَجْدَادِي - صَاحَتْ عَجُوزٌ يَا بُنَيَّ - رَدِّدْ مَعِي كَانَ يَا مَا كَانَ"

صرخة تختزل سنينا من التشرد، ورد العجوز يحول المأساة إلى تراجيديا تاريخية، فـ"كان يا ما كان" هي الصيغة الأسطورية للتاريخ الضائع.

ثُمَّ يَفِيقُ الشَّاعِرُ مِنْ حُلْمِهِ عِنْدَ "مَعْبَرِ نَصِيبٍ"!

يا للعَبَقِريَّةِ! إنَّ "نصيب" هو نسيبةُ الوطنِ، حيثُ يُخْتَمُ الجوازُ بختمِ الغُربَةِ، ويُوضَعُ ملصقُ الخريطةِ كشاهدِ قبرٍ. فإذا بالشَّاعرِ يصرخُ: "وَحَيْفَا مَدِينَةُ أَجْدَادِي" – وهي صرخةٌ تثقبُ جدارَ الزَّمنِ، فتردُّ عليه عجوزٌ بتعويذةِ "كان يا ما كان"، كأنَّما تقولُ: أصبحَ الوطنُ أسطورةً تُحكى!

وَفي الخِتامِ، تأتي المفاجأة العظمى!

عندما يسألُهُ أحدُهُمْ: "عَمَّنْ كُنْتَ تَبْحَثُ؟"، يُجيبُ: "عَنْ طَارِقِ بْنِ زِيَادٍ" إنَّها صاعقةُ البلاغةِ! فطارقُ بنُ زيادٍ هو رمزُ الفتحِ، رمزُ العزَّةِ، وهو الآنَ ضائعٌ بينَ الأنقاضِ. وكأنَّ الشَّاعرَ يقولُ: لقدْ خسرنا حتَّى أبطالَ التَّاريخِ!

إنها ضربة البلاغة القاضية! فالشاعر لا يبحث عن شخص، بل يبحث عن رمز العزة الضائع، عن البطل الذي أصبح أثراً بعد عين. طارق بن زياد الذي فتح الأندلس أصبح هو نفسه بحاجة لمن يفتح له باب العودة. إنه اختيار عبقري يلخص مأساة الأمة من المجد إلى الذل.

فَإِذَا بِالقَصِيدَةِ قَدْ صَارَتْ مَلْحَمَةً!

هي ليستْ شعرًا فحسبْ، بل هي وثيقةُ اتِّهامٍ للزَّمنِ العربيِّ البائسِ. لقدْ نسجَ الشَّاعرُ خيوطَ الحزنِ بخيطِ الأملِ، ومزجَ الموتَ بالحياةِ، وجعلَ من "حيفا" و"دمشقَ" شخصيَّتينِ تتنزَّيانِ دمعًا.

فهذه القصيدة ليست مجرد شعر، بل هي وثيقة تاريخية، وشهادة وجودية، وبكاء على الأطلال في عصر الحداثة. لقد استطاع الشاعر أن يحول الألم الشخصي إلى تراجيديا جماعية، وأن ينسج من حروف القصيدة نسيجاً يحمل كل ألوان المعاناة: الحنين، الغربة، الفقد، الذل، التشتت.

فاللهمَّ ارحمْ أوطانًا صارتْ حروفًا في قصيدةِ حزنٍ، واجعلْ هذه القصيدةَ ناقوسَ يَقَظَةٍ لأمَّةٍ نامَتْ عن عزِّها، فإذا بها تستيقظُ على أنَّ أبطالَها ضائعونَ بينَ الرُّكامِ!

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل

21/11/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق