الأحد، 9 نوفمبر 2025

لوحة نثرية موشحة بالإبداع ومنبجسة من خلف الشغاف..صيغت بمداد الروح للكاتبة المصرية السامقة (هويدة عبد العزيز) بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 لوحة نثرية موشحة بالإبداع ومنبجسة من خلف الشغاف..صيغت بمداد الروح للكاتبة المصرية السامقة (هويدة عبد العزيز)

-"في الكتابة،ثمة كاهنة تتوضأ بالمعنى،تواصل خشوعها بعيون النشوى شوقا أليك. "(هويده عبد العزيز)


-قد لا أرمي الورود جزافا إذا قلت أن هذه الخاطرة هي رحلة في عوالم الحب المقدس، حيث يتحول المحبوب إلى منقذ وجودي،وإلى مصدر للمعنى في عالم يتهدده القحط والغياب..( الكاتب)


استوقفتني لوحة ابداعية موشحة بالجمال،والبهاء الفني للكاتبة المصرية المبدعة هويده عبد العزيز موسومة ب ”أيها الهارب من صفحات التاريخ..إلى مجرى دمي*”


هذه الكاتبة/ الشاعرة الواعدة لها قدرة على إيصال رسالتها الفنية والإبداعية عبر أقصر زمن،ومن خلال تكثيف جمالي أنيق،ربما يعود هذا الإدهاش الفني إلى قدرتها على صياغة اللحظة الفنية والحياتية بمهارة حيث يتجلى البعد الفني والإبداعي بين ثنايا السطور.

قلت،هذه الكاتبة الطموحة،ومن خلال متابعتي لكتاباتها التي تطل علينا من نافذة الإبداع،أدركت أنها تمتلك سحرا خاصا بها سرديا،من شأنه تحريك نوازعنا الداخلية،بما تملكه من قدرة على دمجِ عددٍ من الفنون الإبداعية في متنها القصير،لتخلق لها كيانه الخاص،فتغوص عميقاً في الواقع،تلتقط منه ما هو عام ومشترك بين البشر وتنبش ما في النفس من خفايا وانكسارات،خاصة إذا كان الواقع مشتبكاً بين-استحقاقات الحياة،واكراهات الواقع..

إنّ قراءة متأنية لهذه اللوحة الإبداعية ( ” أيها الهارب من صفحات التاريخ إلى مجرى دمي.. ”)   المشحونة بالتكثيف والترميز،،ومن خلال تفكيك دلالاتها،تضعنا أمام التساؤل التالي: ما مدى قسوة الواقع الهاجع خلف الشغاف الذي ترصده؟

من هنا أيضاً تبدو أهميّة العنوان في إثارة الرغبة وفتح عتبة البحث والتنقيب عن جواب لهذا السؤال،الذي سيفتح الباب أمام أسئلة أخرى..تاركا للقارىء الكريم هامشا فسيحا من الوقت،للعثور على الجواب المناسب..

وإليكم هذه اللوحة الإبداعية حاثا إياكم على التفاعل معها فنيا،حين يختمر عشب الكلام..

"أيها الهارب من صفحات التاريخ إلى مجرى دمي، يا من نقش النورُ اسمَه ترتيلةً في لوح قلبي، كنبضةِ حياةٍ،كيف بلغتْ مقاماتِ الدهشة و سرَّ مَن آنس الفجر؟

يا مؤنسي في ظلمتي الأولى,ومفارقي في هجير الغياب،محبتي…يا رفادتي حين يعطب السرّ،وماءُ دمي حين يلهث الشوقُ في رئتيَّ،كيف تغدو الدوحة قيظًا إذا ابتعدت؟

وكيف يتيبس النبض في وادي صدري إن تأخر ظلك عن ماء قلبي؟

دعهم لاحتفالاتهم التي تبهت مع أوتار الغروب،

أمّا أنتَ فقيثارتي التي أشدّد أوتارها كي لا تصهر أوصالها الشمس ولا ينسج الليلُ حولها الصمت.

تعال إليّ..فطقسك لم يحن بعد،وموسمك يبدأ حين تتقدّس خطاك،على شفاه الحلم،وأحتفي بقدومك كما يحتفي الأسلاف،بفيض السرِّ إذا عطش القلب،وبطمي الروح إذا قحط المعنى،

وأحني كما تنحني عيونُ رع-1-لتُقبّل ضفاف الوجود،فإذا ابتسمت شبت نارُ الشوق في عروقي،وتوهّج اللوتسُ بين ضلوعي،تعال لأقطف لك خبزَ القلب من شجرةٍ غرسها آمون-2-في معبد الفؤاد،وأسكب لك فاكهةَ الشتاء عنبًا من خمرة الأسرار،فتشرب نبضي كما يشرب النيلُ سرّ المطر.عُــــــد من مخبأ الأسطورة إلى صفحات الخلود التي ما زالت تحفر اسمكَ،إلى ذاك الهيروغليف-3-الذي ضلَّ سطورَه على كتفي،إلى الصفحة التي لا تكتمل إلا حين يطل عليها وجهك،عُد كدمعةٍ ذرفتها إيزيس-4-

لكن احتفظ ببريقها ولو في تراتيل الموتى.

أقبل..فالليلُ يهيّئ لعودتك أوركسترا من شهيق النجوم،والقمر يتهيّأ لطقوس ولادتك من جديد،

والنجمة تخلع نقابها إذا مرّت بك.وإذا جئت…انجلى المعنى في مرايا الماء،ورفعتُ للكون راية قلبي،كي يعرف أن الحياة تبدأ بك ولا تنتهي إليك.

في الكتابة،ثمة كاهنة تتوضأ بالمعنى-5-،تواصل خشوعها بعيون النشوى شوقا أليك. 

(هويده عبد العزيز)


إنّ الخاطرة الشعرية توغل شفيف فى مسارات الذات الخبيئة،أو هي مونولوج رائق يماثل التتابع النغمي في درجاته الرهيفة،ومن هنا فإن للغة أهميتها القصوى في ملء كل هذه المسارات والدروب بألوان الانتباه الناعم الذي يحدثه الإبداع التأملي الجاد.

وعندما يكون موضوع الخاطرة،من الخطورة بحيث ترتجف النفس لمجرد قراءة عنوان النص ( "أيها الهارب من صفحات التاريخ..إلى مجرى دمي ”)، فلابد أن يساير المتن هذا الاهتزاز الوجداني ويعضده تأكيدًا ودعمًا لإحداث الأثر الكلي من جماليات الدهشة والتلقي الفائق.

تأملت هذه اللوحة كثيـرا،وفي كل مرة كانت تشدني اليها أكثر وتدفعني الحيرة للتأمل في مضمونها ومساحات الصمت والتجريد فيها.

ولكن..

قد تحمل اللوحة معان كثيرة،وكل واحد منا قد يرى شيئا مختلفا عن الآخر-هذا ما يعطي الفن سموا وقوة في الحضور-

وكما يقال في علم النفس،إن تأويلاتنا للمعاني هي مجرد انعكاس لافكارنا واسقاط لما يشغل بالنا على الاشياء من حولنا..

في هذا السياق،يبدو لي المشهد الإبداعي للكاتبة والشاعرة المصرية المتميزة هويده عبد العزيز حافلا بما هو مدهش وجميل،وهذه اللوحة الإبداعية التي رسمتها بمداد الروح،تلج القلب والوجدان-دون استئذان-من خلال إنسانية الموضوع،والتصاقه الحميم بما يمور في وجدانها من انفعالات ترجمتها في شكل لغة شفافة،لغة أقرب إلى الرسم،فكل لفظة في معمارها،لها مكانها الخاص ودورها الذي تؤديه وكأنها شخصيات مسرحية تحمل في طياتها الكثير من

الأحاسيس،وتسعى إلى مخاطبة قلب وعقل القارئ في قالب جمالي فريد،وعبر إدهاش جمالي متميز.

وقد لا أرمي الورود جزافا إذا قلت أن هذه الخاطرة هي رحلة في عوالم الحب المقدس، حيث يتحول المحبوب إلى منقذ وجودي،وإلى مصدر للمعنى في عالم يتهدده القحط والغياب. الشاعرة تستخدم ترسانة من الصور البلاغية المبتكرة والرموز العميقة (لا سيما المصرية منها) لتبني عالماً شعرياً متماسكاً،يقدم الحب ليس كعاطفة فقط،بل كطقس ديني،وعلاقة مصيرية بين كائن مشتاق وكينونة مقدسة هي وحدها القادرة على طرد ظلام العدم وإعلان بدء الحياة.

وإذن ؟

هي (الخاطرة) إذا،ليست مجرد كلمات عابرة،بل هي عالم شعري مكثف،يحفر في صخور الوجود والغياب،الحضور والافتقاد.إنها حوار درامي بين صوتين: صوت "الأنا" المتوجس الخائف المشتاق، وصوت "الأنت" الغائب الحاضر في آالذي يشكل المنقذ والخلاص من فوضى العالم وعدميتِه.

وتمنياتنا لها بالتوفيق والسداد بالقادم من أعمال.


محمد المحسن


هوامش :


*ملحوظة : ستنام هذه المبدعة السامقة في حضن السحاب..تغفو قليلا..ملتحفة بالغياب..يتراءى لها حبيبها  وبإلكاد يرى ( بضم الياء) لا سيما في الأيّام الشتائية الماطرة حين السحب تترجّل على الأرض ضبابا،كثيرا ما كانت تراه..

قد يكون الأمر مجرّد أوهام بائسة ورؤى منهكة يكتنزها اللاشعور لكنها تنفلت أحيانا من رقابته،كي تتحوّل إلى نداء خفوت يعزف لحنا جميلا للقادم في موكب الآتي الجليل..فننخرط جميعا في جوقة الرقص على إيقاع الكلمات..كلمات صاغتها المبدعة-هويده- بحبر الروح..ودم القصيدة..

1-رع: إله الشمس،وحين تحني الأنا عيونها كما تحني عيون رع،فهذا تعبير عن خشوع وإجلال لا حدود لهما.

2-آمون: إله الخفاء والهواء،الذي يغرس شجرة الخبز في معبد الفؤاد،رمز للعطاء الخفي والإلهي.

3-الهيروغليفية:هي نظام الكتابة الذي استخدمه قدماء المصريين.وهي كلمة مشتقة من اليونانية "هيروغليفيكا"التي تعني "النقش المقدس"،لأن الإغريق رأوها منقوشة على جدران المعابد والمقابر.

4-إيزيس: الإلهة الأم التي تذرف دمعة (وفق الأسطورة،حيث ولد نهر النيل من دموعها).تشبيه عودة "الأنت"بدمعة إيزيس التي تحتفظ ببريقها يعني أن هذا الغياب أو الألم يحمل في طياته بذرة الخلود والنماء.

5-كاهنة: "في الكتابة،ثمة كاهنة تتوضأ بالمعنى". هذا يخلق توازياً مع القداسة التي يمتلكها "الأنت". فالأنا هي الكاهنة التي ترعى المعبد (القلب) وتنتظر الإله (الأنت).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق