ماتيلدا
التقى توم ماتيلدا على شاطئ بمدينة لوزان المتاخمة لنهر جنيف. قال لها وهو مطبق على سيجارته بشفتيه:
جبال الآلب خلف البحيرة تبدو شاهقة وبعيدة. المنظر غاية في الجمال.
صحيح، لكن مطر، مطر، مطر… أووف.
ثمّ لملمت أطراف معطفها الأسود، معيدةً ربطَ حزامه على خصرها النحيف. تأبّطت ذراع الغريب: "يبدو صيدًا ثمينًا في هذا المساء المتجهّم."
التصقت به محاولة الاحتماء بمطريّته من زخّات المطر التي تسارعت ترشق الطريق بنقراتها المتسارعة. سارت معه متتبّعة خطواته المتئدة رغم جنون الرياح العابثة بالمطريّة وبمن تحتها.
لا شيء يمنح الإنسان إحساسًا بالدفء كالرقص. ما رأيكِ؟
أجابته ماتيلدا، إذ ما عادت بها قدرة على السير:
أعرف مرقصًا غير بعيد في آخر هذه العطفة.
حذاؤكِ الأحمر مثير. أنا فيتشي و...
مازوخي؟
هل يخيفكِ هذا؟
إطلاقًا.
دفع توم الباب على رواق طويل خافت الأنوار. أفضى بهما إلى مرقص، نزلا إليه بمدارج حلزونيّة بين ضيق جدارين يجعل الصاعد يحتكّ بالنازل إن لم ينعطف ملاصقًا بظهره الحائط.
في فسيح قاعة غير مستويّة الارتفاع تعدّدت زواياها وتنوّعت انبعاجاتها المنفتحة على أبواب سريّة خلف ستائر مخمليّة. اختلطت أصوات الموسيقى التي ترقّ وتصخب أحيانًا مع الجلبة المبهمة التي ترفل بين المناضد والأريكة المنتشرة تحت السواري الخشبيّة وما بينها.
رحّب بهما النادل غامزًا ماتيلدا بنظرة ذات معنى. اشتدّ التدافع بين المراقصين بين مخاصرة ومداعبة. احمرّت العيون والتهبت الأدمغة متتبّعةً نساء نصف عاريات يخطرن بين السكارى، يتبادلن معهم نظرات وعبارات ذات مغازٍ شهوانيّة.
كان توم مستنكفًا بالإثارة التي تحققها له متعة التلصّص على المحيطين به، تستهويه المشاركة في العلاقة التي أمامه بالبعض من حواسه. قال مغْمغًا:
لا قيمة ولا معنى للزمن الذي ينقضي دون مسرّات جسديّة متنوّعة.
فأجابته ماتيلدا بحركة من كأسها الذي رفعته نحوه ثم قالت بصوت عالٍ:
تريدها مسرّات جسديّة متنوّعة؟ ههههه يا السيّد!
توم، توم.
ماتيلدا، ماتيلدا.
أعادا رفع كأسيهما. مدّ شاب يده لماتيلدا داعيًا إياها إلى الرقص، فوقفت مترنّحةً ملبية.
في أحد السراديب المؤدية إلى غرفة خافتة الإنارة والموسيقى، حيث الخيال يجد مرتعًا لا حدود ولا لجام عليه، محفَّزًا بأدوات وألبسة غريبة. دفعت ماتيلدا توم وهي متأبّطة ذراع شاب خلاسيّ داكن السمرة، صلب العضلات، غليظ الشفاه، أفطس الأنف. بادر بملامسة ذقنها المذّبب، مرّر يده الكبيرة السوداء على خدّها المنثور عليه نمش كحبات جلجلان. حشا سبّابته بين شفتيها الصغيرتين المكتنزتين. نظرت في عينيه بولهٍ فاجر، اقتربت منه محتكّةً به، ثم عضّته بقوة فصرخ. صفعها على وجهها فسقطت على السرير مقهقهة، واقعها بعنف جسديّ ولفظيّ، حظي توم الجالس على أريكة أمامهما بنصيب منه: سباب وصفع وجُمل وقحة وضيعة ألقياها في وجهه الجاحظ العينين، المنتفخ الأوداج، المنفرج الشفاه على دهشة بلهاء أمتعته.
في عيون ماتيلدا اشتهاءٌ مريع شاذ. كانت كالحرباء تتلوّن بألوان توم القزحيّة. فقال لها صباح اليوم التالي:
ماتيلدا، هل ترغبين في مرافقتي إلى إفريقيا؟
هههه، في كلّ جملة تردّد اسمي: ماتيلدا، ماتيلدا… هذا هو دأب الفرنسيين.
إقامتنا ستكون في مدينة سانت لويس يا ماتيلدا. مدينة على الساحل الأطلسي في غرب القارة السمراء. الرقص على أنغام الجاز في ملاهيها سيروق لك، كما أنّ بياضك ينصهر على نحو ماتع مع السمرة الحالكة… ههه.
توقّفت عن تجفيف شعرها بمنشفة بيدها لبرهة، وفي عينيها سؤال وكأنها تقول:
هل أنت جاد في اقتراحك؟
أجل.
أفاض في كلامه، وهذا دأبه حين يتعلّق الأمر بأمور السياسة أو التاريخ وما يتصل بالأحداث من علاقات بين الإنسان ومحيطه الطبيعي. على ما بدا عليهما من استهتار شاذ خلال ليلتهما الفارطة، إلا أنّهما استرسلا في حديث بين طُلعة حسنة الاستماع كانت هي، وشخص واسع المعرفة محبّ للسفر والمغامرة كان هو.
قال بعد أن اعتدل في جلسته على طرف السرير:
أزمة 1929 الخانقة التي عصفت بالولايات المتحدّة الأمريكيّة مسّت أوروبا، فتدهور الاقتصاد وضرب الفقر جانبًا غير قليل من الشعوب.
فأشارت بأصبعها إلى نفسها متحدّثة في مرارة عن الانهيار السريع الذي أصاب والدها الذي كانت تقيم معه في أمريكا:
مُضارب في البورصة كان أبي. في تلك الأيام السوداء خسر كلّ أسهمه فانتحر. فعدتُ إلى موطني في سويسرا، أتَسَمَّتُ المال الذي تركه لي في أحد البنوك. سوء تصرفي وعدم قدرتي على ضبط مصاريفي وتكالب الانتهازيين بدد ما كان بحوزتي.
ثم قالت بنبرة مرحة، محاولةً قشع جوّ الكآبة:
ألا تُعتبر فرنسا جزيرة رخاء بفضل خيرات مستعمراتها الكثيرة؟
استكشاف أرض الثروات بدأه البرتغال ثم الإسبان، لحق بهم الفرنسيون والإنجليز الذين اشتدّ التنافس بينهم لتقاسم الكعكة.
كعك وقهوة ساخنة… بطني خاوية.
جذبها، أجلسها على حجره، خلّل بأصابعه خصلات شعرها النديّ قائلًا:
بعد قليل سيأتي الفطور. سنذهب معًا إلى السنغال لو أردتِ. السنغال هو الحقل الخصب لكلّ التجارب بالنسبة لنا نحن الفرنسيين. هذا الأمر مكّننا من مراكمة معارف ميدانية نقوم بتوظيفها في بلدان إفريقية أخرى. السنغال كانت وما زالت منطلقًا لجيوش فرنسا إلى مستعمراتنا. نحن نعدّ المقاتلين، نجمعهم من مناطق مختلفة، هم يتحدثون لغات ولهجات متنوعة، لكن هذا لا يعيق عملي ومهمتي. هم المشاة في جميع الحروب، بملابسهم العسكرية الغريبة المضحكة التي ليست على مقاسهم، لكنهم قنّاصة على جانب كبير من المهارة. هم دائمًا في الصفوف الأمامية عند القتال أو المداهمة.
دمكم الفرنسي غالٍ يا عزيزي، لذلك تعتمدونهم كدروع بشرية.
أشعل توم سيجارة، حشاها بين شفاه ماتيلدا ليسكتها. جذبت نفسًا عميقًا ثم نفثته في وجهه قائلة:
مهمتك إذن هي عسكرية، إعداد هؤلاء الجنود وتدريبهم.
ستة أشهر في السنغال، لأرحل بعدها بالمجنّدين إلى تونس.
تونس!
انفتحت حدقتاها كمن يرى الحلم الإفريقي ملوحًا أمامها بحرارته. نطّت وقفزت على السرير مشرعةً يدها إلى السماء ضاحكة:
الشمس، الشمس، الشمس! إلى أرض الشمس يا توم. أنا موافقة… سأذهب معك.
سمعا طرقًا على باب الغرفة. دخل بعدها نادل بيده صينية فطور الصباح.
هادية آمنة – تونس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق