قراءة لنص – على روابي الأحلام - للأديبة نافلة مرزوق العامر 9/11/2025
النص:
على كم
على روابي الأحلامِ
حطّت
أجنحةُ خيالي الأخضر
وكم
طافت ْ
نظراتُه
في ثناياها
ترتشفُ من جداولها
سلسبيلَ السّحر
والسّكْرِ
وكم
من عبقِ زهورها
اقتطفت
أغنياتِ المحالِ
ترفدُ
في نبضها
رغبةَ السّؤال
لتشرأبّ
على شفاهها
عزيمةُ الغوصِ
ولولا
حلمُ ليلٍ
ممتدّ آخر
يزاحمُ نورَ
الصّباح
الآتي
في الحاحٍ
ما
انكسرت
عنقُها
في انكسارِ يومٍ
لعتمة
فإشراق
لموعدٍ
لا بدّ فيه
من تجدّد لقاء
مع نبض كان
يحلمُ
واستفاق!
*****************************
قراءة في نص: "على روابي الأحلامِ"
تبدو هذه القصيدة قصيدةً وجدانيةً غنائية، تحمل في طياتها رحلةً وجوديةً عميقة للذات الشاعرة مع الحلم والواقع، الانكسار والأمل. إنها ليست مجرد انسياب عاطفي، بل هي تأمل فلسفي في طبيعة الوجود الإنساني المحكوم بالأمل والألم.
1. العنوان والبنية: رحلة من الذروة إلى السقوط
تبدأ القصيدة بـ "على روابي الأحلامِ". "الروابي" جمع رابية، وهي التلة المرتفعة، مما يمنح الحلم سمةً من السمو والارتفاع والاستقرار. هذا هو العالم المثالي الأول، عالم الخيال الخصب حيث "حطّت أجنحةُ خيالي الأخضر". الاستعارة "أجنحة خيالي" توحي بالحرية والتحليق، وصفة "الأخضر" تحمل دلالات النماء والخصب والحيوية. إنه عالم كامل ومكتفٍ بذاته.
تكرر كلمة "وكم" في بداية المقاطع الثلاثة الأولى، وهي أداة تكثير في اللغة، تشير إلى طول مدة هذه الرحلة في عالم الخيال وثراء تفاصيلها. إنها ليست زيارة عابرة، بل هي إقامة ممتدة.
تأتي "ولولا" في المقطع الرابع كنقطة تحول دراماتيكية. هذه الأداة الشرطية تقطع تدفق الحلم بضربة مفاجئة، لتقدم الشرط الذي أدى إلى الكارثة. البنية هنا محكمة: بناء تدريجي نحو الذروة (التحليق، الارتشاف، الغوص) ثم انعطافة حادة نحو السقوط (الانكسار).
2. القراءة البلاغية: استعارات الضوء والعتمة والكسر
· الاستعارة المكنية: "حطّت أجنحةُ خيالي" – حيث شبه الخيال بطائر محلق، وحذف المشبه به (الطائر) وذكر لازم من لوازمه (الأجنحة) مما يزيد الصورة قوة واختصاراً.
· الاستعارة التصريحية: "ترتشفُ من جداولها سلسبيلَ السّحرِ والسّكْرِ" – شبهت نظرات الشاعر بشارب يرتشف من جداول الحلم. و"سلسبيل" هو النهر أو العين في الجنة، مما يضفي على الحلم صفة القداسة والخلود. الجمع بين "السحر" و"السكر" يخلق حالة من الانبهار والغيبوبة الجميلة، حيث يفقد الشاعر إحساسه بالواقع.
· الكناية: "اقتطفت أغنياتِ المحالِ" – كناية عن استحالة تحقيق هذه الأحلام أو استحالة وصفها. "أغنيات المحال" جمع بين النشيد الجميل والشيء المستحيل، وهو تناقض مؤثر يخلق جمالاً تراجيدياً.
· الطباق (التضاد): هذا هو العمود الفقري للقصيدة على المستوى الدلالي:
· الخيال (الأجنحة) الواقع (الانكسار).
· النور (الصباح الآتي) العتمة (الانكسار).
· الامتداد (حلم ليل ممتد) الانكسار (انكسرت عنقها).
· السكر (النشوة) الاستفاقة (الصحو). هذا التضاد يخلق توتراً درامياً يعكس الصراع الوجودي الأساسي في النص.
3. القراءة الوجودية: البحث عن المعنى في مواجهة العبث
هنا تكمن الروح العميقة للنص. القصيدة هي نموذج مصغر للدراما الوجودية للإنسان.
· المرحلة الأولى: الوجود الأصيل في عالم الخيال. الشاعرة هنا تعيش في حالة من "الوجود الأصيل" كما يصفها الفلاسفة الوجوديون. إنها تخلق عالمها الخاص بمعانيها الخاصة. إنها "ترتشف" السحر وتقتطف أغنياتها. بل إنها تتجاوز التلقي السلبي إلى الفعل الإيجابي: "ترفد في نبضها رغبة السؤال". الحلم هنا ليس هروباً، بل هو منبع للإبداع والتساؤل الفلسفي. "عزيمة الغوص" على الشفاه هي نية استكشاف أعماق هذا العالم، وهي ذروة الفعل الإرادي الحر.
· المرحلة الثانية: صدمة الواقع والانكسار. يأتي "الصباح الآتي" ليس كمنقذ، بل كمنافس مزعج، "يزاحم" نور الحلم "في الحاح". الصباح هنا هو رمز للواقع المادي اليومي، الروتيني، الخالي من السحر. إنه العبث الذي يقطع استمرارية الحلم. والنتيجة مروعة: "انكسرت عنقها". هذه صورة عنيفة ومؤلمة. "العنق" هو رمز للكبرياء، للعلو، للنظرة نحو الأعلى (نحو الروابي). انكسار العنق هو سقوط مروع من عالم السمو إلى عالم الحضيض. إنه موت رمزي للذات المبدعة.
· المرحلة الثالثة: الاستفاقة وإعادة التأسيس. النهاية ليست يأساً مطلقاً. هناك "إشراق لموعِدٍ". السقوط ليس النهاية، بل هو بداية لفهم جديد. "لا بد فيه من تجدد لقاء" – هذه جملة حاسمة. إنها إقرار بضرورة المعاناة كجزء من دورة الوجود. اللقاء المتجدد ليس مع الحلم الساذج نفسه، بل "مع نبض كان يحلم واستفاق!".
هذه العبارة الأخيرة هي خلاصة الرحلة الوجودية. الذات لم تعد ذلك الحالم الساذج الذي يعيش في برج عاجي. إنها الآن "نبض" حي، يمتلك خبرة مزدوجة: خبرة الحلم وخبرة الاستفاقة منه. الوجود الأصيل الحقيقي لا يكمن في الهروب من الواقع ولا في الاستسلام له، بل في الاحتفاظ بالنبض رغم كل شيء، وفي القدرة على الحلم مع الاستيقاظ، على حمل ذكرى السحر وسط وطأة الواقع.
هذه القصيدة النثرية هي سيمفونية شعرية عن الوجود الإنساني الهش والمقاوم في آن واحد. إنها ترسم بريشة بلاغية رفيعة صعود الروح نحو عالمها المثالي، ثم صدمة الاصطدام بجدار الواقع، وأخيراً، ولادة وعي جديد من رحم الانكسار. إنها تقول لنا: قد ينكسر عنق حلمنا، ولكن نبض حياتنا، ذلك النبض الذي عرف الحلم والاستفاقة، يظل قادراً على انتظار "الإشراق" و"تجدّد اللقاء". إنها قصيدة عن الفشل في الاحتفاظ بالجنة، ولكن عن النجاح في اكتشاف قوة الإنسان التي تمكنه من السير مرة أخرى نحو موعد جديد مع الأمل.
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
9/11/2025

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق