السبت، 15 نوفمبر 2025

القلق الوجودي: سِمَةُ الإنسان المعاصر أم مرض العصر؟ بقلم الكاتب طه دخل الله عبد الرحمن

 القلق الوجودي: سِمَةُ الإنسان المعاصر أم مرض العصر؟

يُطْلَقُ مصطلح "القلق الوجودي" على ذلك الإحساس العميق بالاضطراب والحيرة الوجودية الذي يتجاوز هموم الحياة اليومية ليتغلغل في صميم الأسئلة الجوهرية حول المعنى والغاية والمصير. وهو ليس ظاهرة جديدة على الفكر البشري، فقد شغل الفلاسفة منذ القدم من سقراط وكانط إلى نيتشه وكيركغور. بيد أن السؤال الملح الذي يفرض نفسه في سياقنا الراهن هو: هل أصبح هذا القلق سِمةً ملازمةً للإنسان المعاصر، جزءاً من هويته وكينونته في هذا العصر المضطرب؟ أم أنه تحول إلى "مرض العصر" بامتياز، آفةٌ نفسية واجتماعية تستدعي التشخيص والعلاج؟

في عمق الظاهرة: بين القلق الطبيعي والمرضي

لا يُعَدُّ القلق بمفرده ظاهرةً سلبيةً بالضرورة، فقد رأى الفيلسوف الوجودي سورين كيركغور أن القلق "مدرسة للإمكانيات"، وهو رفيق الوعي بالحرية والمسؤولية. فهو استجابة طبيعية لكائن واعٍ بحدوده، بزمنه المنقضي، وبمواجهة حتمية الموت. لكن هذا القلق يتحول من محفز على الخلق والإبداع إلى عائق عندما يتحول إلى رعب وجودي يهشم الذات ويشل فاعليتها. هنا ينتقل القلق من كونه "سِمة" إنسانية إلى "مرض" وجودي، حينما تغيب الأدوات النفسية والفكرية لتحويل هذا القلق من طاقة سلبية مدمرة إلى تساؤل منتج.

معالم القلق الوجودي في العصر الحديث: لماذا الآن؟

إذا كان القلق الوجودي قديماً، فما الذي جعله يتصدر مشهد الإنسان المعاصر بهذه القوة؟ يمكن إرجاع ذلك إلى جملة من العوامل المتشابكة:

 أولاً: انهيار السرديات الكبرى: شهد القرن العشرون وما تلاه انهياراً للعديد من المرتكزات الفكرية والدينية والأيديولوجية التي كانت تمنح الحياة معنى جاهزاً. لم يعد الفرد يعيش في إطار سردية شمولية توفر له إجابات نهائية، مما ألقى به في بحر من الاحتمالات والاختيارات، مصحوباً بحيرة كبيرة وعبء المسؤولية الفردية.

ثانياً: طغوات المادة والاستهلاك: أفرزت الحضارة الاستهلاكية المعاصرة شكلاً من أشكال التغريب عن الذات. ففي عالم يُقدس المادة والكم والسرعة، يجد الإنسان نفسه غارقاً في تيار من العلاقات السطحية والملذات العابرة، مما يخلق فجوة عميقة بين ظاهره المادي وباطنه الروحي، فيشعر بالفراغ والعبثية.

ثالثاً: ثورة المعلومات والعزلة الاجتماعية: على الرغم من أن عصر الاتصالات جعل العالم "قرية صغيرة"، إلا أنه ولّد شعوراً عميقاً بالعزلة والاغتراب. أصبح الفرد مرتبطاً رقمياً بآلاف الأشخاص، لكنه قد يشعر بالوحدة الوجودية في خضم هذه الضوضاء الرقمية، حيث غياب العمق في العلاقات الإنسانية.

رابعاً: تهديدات مصيرية: يواجه الإنسان المعاصر تهديدات وجودية جماعية لم يعرفها بهذا الحجم من قبل: خطر التغير المناخي، والأسلحة النووية، والأوبئة العالمية. هذه التهديدات تذكره بشكل يومي بهشاشة وجوده وهشاشة الكوكب الذي يعيش عليه، مما يغذي قلقاً وجودياً جماعياً.

القلق الوجودي: سِمةٌ أم مرض؟ محاولة للتركيب

لا يمكن الفصل بشكل قاطع بين "السِمة" و"المرض". فالأمر أقرب إلى طيف متدرج. يمكن القول إن القلق الوجودي في حد ذاته أصبح سِمةً من سمات الوعي المعاصر فهو الاستجابة الطبيعية لكائن أُلقي به في عالم فقد الكثير من يقينياته، عالم يتسم بالتعقيد والتسارع واللايقين. إنه السِمة التي تميز إنسان هذا العصر الذي يدرك أنه لم يعد بمقدوره الاعتماد على إجابات جاهزة، بل عليه أن يبني معنى وجوده بيديه. أما حينما يفشل الفرد في تحمل عبء هذه الحرية، وعندما يتحول القلق من حافز على التساؤل والتأمل إلى حالة من الشلل واليأس والاكتئاب، وعندما يعجز عن ممارسة حياته بشكل طبيعي، فهنا يتحول إلى مرضٍ نفسي-وجودي فالمرض ليس في وجود القلق، بل في استسلام الذات له، وغياب المرونة النفسية والتأقلم للتعايش معه وتحويله إلى قوة دافعة.

في سبيل مواجهة القلق: من التشخيص إلى العلاج

مواجهة القلق الوجودي لا تعني القضاء عليه، فهذا مستحيل لأنه جزء من شرطنا البشري، بل تعني تعلم العيش معه بشكل صحي. وهذا يتطلب على المستوى الفردي: تبني ممارسات تزيد من الوعي الذاتي مثل التأمل والكتابة والفن. والعمل على بناء معنى شخصي للحياة من خلال الانخراط في قيم يؤمن بها الفرد، والعمل المنتج، وبناء علاقات إنسانية عميقة. كما أن القراءة في الفلسفة الوجودية والأدب العظيم يمكن أن تقدم عزاءً وإحساساً بالتواصل مع معاناة الآخرين وأسئلتهم.

على المستوى المجتمعي: خلق خطاب ثقافي وتربوي لا يتهرب من الأسئلة الوجودية الكبرى، بل يشجع على طرحها ومناقشتها بشكل عقلاني. وتعزيز قيم التضامن الإنساني والتعاطف، التي تشعر الفرد بأنه جزء من نسيج إنساني أوسع، مما يخفف من وطأة العزلة الوجودية.

خاتمة:

القلق الوجودي هو إذاً الوجه الآخر لوعي الإنسان المعاصر المفرط. إنه الثمن الذي ندفعه مقابل الحرية والوعي بالذات. وهو بهذا المعنى سِمةٌ حتمية لعصرنا. لكن هذه السِمة تحمل في طياتها بذور المرض والدمار، كما تحمل بذور النماء والإبداع. الفيصل ليس في وجود القلق من عدمه، بل في موقفنا منه. فهل نستسلم له فيغدو مرضاً يعيقنا، أم نتعايش معه بوعي فيتحول إلى محركٍ يدفعنا إلى اختراق المألوف وخلق معانينا الخاصة، مبتكرين وجودنا في عالمٍ لم يعد يقدم لنا إجابات جاهزة؟ الإجابة على هذا السؤال هي، في النهاية، ما يميز إنساناً معاصراً سويّاً عن آخر سَقَطَ أسيراً لمرض العصر.

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل

2/11/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق