الأحد، 23 نوفمبر 2025

الانزياح اللغوي: عندما تتمرد الكلمات على مألفها بقلم الأديب طه دخل الله عبد الرحمن

الانزياح اللغوي: عندما تتمرد الكلمات على مألفها

الحمد لله الذي أنطق الألسن، وجعل الكلمات وعاءً للمعارف والأفكار، والصلاة والسلام على من أُوتي جوامع الكلم، وبعد:

إن اللغة كائن حي ينبض بالحياة، يحمل في طياته روح الأمة ووجدانها، وهي ليست قوالب جامدة ولا سجوناً من حروف، بل هي بحر زاخر تتصارع فيه تيارات المعنى، وتتجاوز حدود المألوف. وفي هذا العالم اللغوي الواسع، تنشأ ظاهرة عجيبة، هي ظاهرة " الانزياح اللغوي"، حيث تثور الكلمات على سياقها المألوف، وتتمرد على دلالاتها المبتذلة، لتخلق عالماً جديداً من المعاني، وتفتح أبواباً من التأويل لم تكن في الحسبان.

فما الانزياح اللغوي إلا تمردٌ على الرتابة، وثورة على المبتذل من الكلام. إنه الخروج باللغة من حيز التواصل اليومي المباشر، إلى فضاء الفن والإبداع. فالكلمة في الانزياح تخلع رداءها المألوف، وترتدي حُللاً جديدة، تثير الدهشة، وتحرك السواكن في النفس، إنها كالطائر الذي يحطم قفص المألوف، ليطير في فضاء الإبداع الرحب.

وليس الانزياح بدعاً في لغتنا العربية، بل هو أصيل في تراثنا الأدبي. فقد عرفه القدماء بتسميات مختلفة، فأطلقوا عليه "الخروج عن المألوف" و"العدول عن المألوف". لكن العصر الحديث أضاف أبعاداً جديدة لهذه الظاهرة، مع تطور النظريات النقدية واللسانية. فالانزياح اليوم أصبح علماً قائماً بذاته، يدرس آلياته وتأثيراته.

أساليب الانزياح وأنواعه:

وللانزياح اللغوي صور متعددة، وأشكال متنوعة، منها:

الانزياح الدلالي: وهو أشهر أنواع الانزياح، حيث تُنتزع الكلمة من دلالتها المعجمية المباشرة، لتوضع في سياق جديد يمنحها معنى مبتكراً. فالشاعر عندما يقول "أغاريد الطفولة" فإنه يخرج بكلمة "أغاريد" من دلالتها الموسيقية المحدودة، ليعبر عن براءة الطفولة وصفائها. وهذا الانزياح يولد طاقة شعرية هائلة، تثير في النفس الحنين والشفافية.

الانزياح التركيبي: وهو خروج على القواعد النحوية المألوفة، بغية تحقيق غاية فنية أو موسيقية. فقول الشاعر "لكل شيء إذا ما تم نقصان" فيه تقديم وتأخير يخالف الترتيب المنطقي، لكنه يحقق إيقاعاً موسيقياً، ويرفع من مستوى البلاغة. وهذا الانزياح ليس عبثاً، بل هو فن يعتمد على فهم عميق لروح اللغة، لا على جهل بقواعدها.

الانزياح الصوتي: وهو الانزياح الذي يعتمد على تنغيم الحروف وتوزيعها، لخلق موسيقى داخلية تتناغم مع المعنى. فتكرار حرف الراء "الرَّائِعُ المُتَرَاعَى مُتْنِ الرَّوْعِ" يخلق إحساساً بالرهبة والجمال، وكأن الحروف نفسها تشارك في رسم الصورة والمعنى.

الانزياح السياقي: وهو أن توضع الكلمة في سياق غير سياقها المألوف، فتكسب دلالات جديدة. كأن تستخدم لغة العلم في وصف العواطف، أو لغة الفلسفة في وصف المشاهد اليومية.

الانزياح بين الشعر والنثر:

ولا يقتصر الانزياح على الشعر، بل يمتد إلى النثر الفني، فالأديب البارع يستخدم الانزياح لإضفاء عمق وجمال على نثره. لكن الانزياح في الشعر يكون أكثر جرأة وتحرراً، لأن الشعر بطبيعته فن الانزياح والانزياح المضاعف. فالشاعر يحلق في فضاء الخيال، ويبحث عن الجديد الغريب، بينما يظل الناثر أكثر التصاقاً بأرض الواقع والمعنى المباشر.

الانزياح بين الإبداع والإفساد:

وهنا ينبغي أن ننتبه إلى الفرق بين الانزياح المبدع، والانزياح المعيب. فالأول يقوم على فهم عميق لطبيعة اللغة وإمكاناتها، ويأتي لخدمة المعنى وإثرائه، بينما الثاني يكون ناتجاً عن جهل أو عبث، فيفسد المعنى ولا يحقق أي غاية فنية. فالانزياح الجيد كالطائر يحلق في السماء بجناحين قويين، أما الانزياح السيء فكتلك الحشرة التي تزحف على الأرض دون هدف أو اتجاه.

الانزياح وأسرار النفس البشرية:

والانزياح اللغوي ليس مجرد لعبة فنية، بل هو نافذة نطل من خلالها على أعماق النفس البشرية. فالكلمات المتمردة تعبر عن رغبة الإنسان في الخروج على المألوف، والتعبير عن مكنونات نفسه التي تعجز الكلمات العادية عن التعبير عنها. إنه محاولة لقول ما لا يُقال، ولرؤية ما لا يُرى بالعين المجردة.

الانزياح في الميزان النقدي:

ولعل من أعظم ما قيل في الانزياح أنه "الخروج من المألوف إلى غير المألوف، مع الاحتفاظ بالعلاقة الخفية بينهما". فالشاعر المبدع هو من يستطيع أن يقودنا في رحلة الانزياح، ثم يعود بنا إلى نقطة البداية، لكننا نعود وقد اكتسبنا رؤية جديدة، وفهماً أعمق للحياة والوجود.

خاتمة:

الانزياح اللغوي هو روح الإبداع، وهو نبض الحياة في جسد اللغة. به تتحول الكلمات من رموز ميتة إلى كائنات حية تنبض بالمعاني. وهو دليل على أن اللغة ليست سجناً للأفكار، بل هي حديقة غناء، يمكن للكلمات أن تتحرك فيها بحرية، لتخلق عالماً من الجمال والدهشة.

فحفظ الله لغتنا العربية، وجعلها دائماً وعاءً للفكر النير، والإبداع الجميل، والانزياح للمبدع الذي يثري ولا يفسد، ويبني ولا يهدم.

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل  

27/10/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق