المال
''المال يُدوِّخُ مَن يلهث وراءه،
ومَن جعل المال سيّدًا… أصبح عبدًا بين يديه.
هذا ما كانت تُنشده أمي في ليالي الشتاء القاسية، حين كانت عائلتنا تفقد مردود الحقول، ويصبح الدينار مجرّد رؤيةٍ باهتة في عتمة المعاش….
تكدّرت أيّام سالم مع زوجته، وضعته في حيرةٍ لا مخرج لها… فما وجد سبيلًا إلى فهم لغز تبذيرها للمال.
بعد ليالٍ طويلة امتلأت بالغضب والأسئلة الناقصة، جلس في الشرفة كمن يجري جردًا أخيرًا لعمرٍ لم يبقَ منه سوى فتات. لم يكن داخله غضب… بل سكونٌ ثقيل يشبه اللحظة التي يتوقّف فيها القلب عن محاولة النجاة.
كان يدرك أن الكلمات معها تتحوّل إلى حطب، وأن كلّ جملة تنتهي بحريق جديد. شيئًا فشيئًا، صار يرى الحقيقة بلا رتوش: "جيبها مثقوب… لكن الثقب ليس في الجيب وحده."
في الصباح التالي، حين وقفت أمامه تطلب المال، لم ينظر إليها. قال عبارته كما تُقال شهادة وفاة: "انتهى المال… ذاك الذي يضيع كمن يدخل غابة بلا أثر."
شهقتها جاءت حادّة: "صرتَ تحاسبني؟!"
ابتسم ابتسامة باهتة، ميتة، وقال: "لا أحاسبك… لقد توقفت عن الحساب أصلًا. أنا فقط أوقف النزيف."
صرخت، كعادتها، جمعت كل أصواتها فوق رأسه… لكن شيئًا عظيمًا في داخله كان قد سقط وانكسر قبلها بأيام. كانت كلماتها تتفتت على صمته كما يتفتت الزجاج على صخرة.
ومنذ ذلك اليوم، لم يضع في يدها دينارًا واحدًا. لم يعد يرى في العطاء حبًا، بل استنزافًا. صار يعطي للبيت فقط، للضرورة فقط، كمن يسقي شجرة تحتضر بلا أمل في الثمر.
لاحظت تغيّره، فجرّبت الغضب، فارتدّ عليها. جرّبت الدموع، فتبخّرت بينهما قبل أن تسقط. جرّبت اللطف أخيرًا… لكنه كان قد أصبح أعمى عن كل شيء يأتي منها.
صار سالم حاضرًا بجسده فحسب، أما روحه فكانت قد سافرت من البيت ليلًا، بلا حقيبة، بلا ضجيج، بلا ندم.
عاد كل شيء هادئًا… لكنه الهدوء الذي يسبق التخريب، لا المصالحة. هدوء يشبه بيتًا خالٍ من الماء والهواء والصوت… كأن الصنبور أغلق، نعم، لكن ليس بيده هذه المرة... بل بقلبه.
و في مساء غائم، وقف أمامها وقال بهدوء لا يخطئه أحد: "لم أعد أغلق الصنبور… لقد كسرتُه."
ثم أخذ مفاتيحه، وخرج. لا صراخ. لا تفسير. لا محاولة لإصلاح ما لم يعد يستحق الإصلاح.
خرج تاركًا وراءه صنبورًا جافًا… وامرأةً أخيرًا تسمع صوت الماء وهو يختفي، قطرةً قطرة، في صمتٍ لا يُحتمل.
يتبع
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق