الثلاثاء، 14 أكتوبر 2025

قراءة لقصيدة "تؤلمني الذكريات" للشاعر ماجد محمد طلال السوداني بقلم الكاتب طه دخل الله عبد الرحمن

 قراءة لقصيدة "تؤلمني الذكريات" للشاعر ماجد محمد طلال السوداني

القصيدة :
تؤلمني الذكريات
تلاحقني كلمات العتاب
دونكِ تموتُ المشاعر
بين أهلي وأنا رجل غريبٌ
قطارُ الليل
يسرعُ بي نحو الماضي القريب
يمرُ الزمان
تنطوي الأيام
تمضي السنينَ ولا تعودُ
تنتهي الأحلام
يتضاعفُ ألمُ الأشواق
تمتدُ جروحي إلى اخرِ العمرِ
تجتمعُ في قطارِ الأحزان
أهربُ إلى النومِ
لعلي أتخلصُ من الأوهامِ
تطاردني الأفكار
ثلثي العمر يسرقهُ الانتظار
بين حنايا قلبي شعور
لا يقالُ
أعجزُ عن التعبيرِ
بالكلامِ
تهربُ الحروف من اللسانِ
تعلن العصيان داخل الفم
أختارُ الصمت
أكتفي بنظراتِ العيون
غريب هو الجفاء
يتسارعُ فيه الزمن
نحو الملل
رغم شدةِ رياح الخريف
وقدومِ الشتاء
يتساقطُ أقربُ البشر
حتى أنتِ وأقربَ الأعزاء
تتمسكُ أوراقُ الأشجار بالأفنانِ
شاهدة على بقايا الأمل
أشكو طيفكِ ندمًا
من قسوةِ الوجع
ماجد محمد طلال السوداني
العراق / بغداد
*************************
القراءة:
تمثل هذه القصيدة لوحة نفسية مفعمة بالألم والحنين، تُصوِّر معاناة الشاعر مع ذكرياته التي تقض مضجعه وتطارده كظلٍّ لا يفارقه. فلنقف عند محطاتها الرئيسية وقوف الناقد المتأمل، ونحلل عناصرها البلاغية تحليل المستبطن لأسرارها.
أولاً: العنوان وعتبة النص يأتي العنوان "تؤلمني الذكريات" بمثابة النغمة الأساسية للأوركسترا الشعرية، فهو يختزل جوهر المعاناة والوجع الذي سيسري في عروق القصيدة. كلمة "تؤلمني" تحمل في طياتها دلالات الألم المزمن الذي لا ينقطع، بينما "الذكريات" تفتح باب الزمن الماضي بكل ما يحمله من شجون.
ثانياً: البنية الدرامية والصور الفنية
1. استعارة الذكريات والكلمات ككائنات حية: "تؤلمني الذكريات // تلاحقني كلمات العتاب" هنا يحوِّل الشاعر الذكريات من مجرد صور عقلية إلى كائنات مؤلمة، ويجعل كلمات العتاب كائنات طارقة لا تني عن ملاحقته. وهذا من البلاغة في تجسيد المعنويات.
2. استعارة الموت للمشاعر: "دونكِ تموتُ المشاعر" إنها استعارة مروعة توحي بالخواء العاطفي والجمود الشعوري، فالمشاعر التي يفترض أنها مصدر الحياة تصير هنا إلى ممات.
3. الصورة السوريالية للغربة: "بين أهلي وأنا رجل غريب" تكثيف بليغ للاغتراب الداخلي، حيث يصور الشاعر نفسه كغريب بين أهله، في مفارقة تراجيدية تزيد من حدة المعاناة.
4. استعارة قطار الليل: "قطارُ الليل // يسرعُ بي نحو الماضي القريب" القطار هنا استعارة للزمن الذي لا يتوقف، والليل يضفي على الصورة طابعاً كئيباً. وتسارع القطار يرمز إلى تسارع الأحداث نحو الماضي الذي لم يبتعد بعد.
5. الانزياح الزمني: "يمرُ الزمان // تنطوي الأيام // تمضي السنينَ ولا تعود" يستخدم الشاعر الانزياح الزمني لخلق إحساس بالتسارع المصحوب بالحسرة، مع التأكيد على الزمن الذي لا يعود.
6. التراكم العددي للألم: "تنتهي الأحلام // يتضاعفُ ألمُ الأشواق" هنا تتحول الأحلام إلى ألم، ويتضاعف الشوق بدلاً من أن يخفت، في مفارقة مؤلمة.
7. استعارة الجروح والقطار: "تمتدُ جروحي إلى اخرِ العمرِ // تجتمعُ في قطارِ الأحزان" صورة مركبة تجمع بين الجروح التي تمتد كقطار، والقطار الذي يجمع شتات الأحزان. إنها استعارة مزدوجة تخلق تكثيفاً درامياً.
8. الهروب إلى النوم كملاذ: "أهربُ إلى النومِ // لعلي أتخلصُ من الأوهامِ" يصور الشاعر النوم كمحاولة يائسة للهروب، لكن حتى هذا الملاذ لا يخلو من مطاردة الأفكار.
9. سرقة العمر: "ثلثي العمر يسرقهُ الانتظار" صورة سارق للانتظار، تعكس هدر الزمن وهدر العمر في انتظار مجهول.
10. عجز التعبير وتمرد الحروف: "أعجزُ عن التعبيرِ // بالكلامِ // تهربُ الحروف من اللسانِ // تعلن العصيان داخل الفم" هنا يبلغ الشاعر ذروة البلاغة في تصوير العجز عن التعبير. إنه يجسد الحروف كجنود تعلن العصيان، واللسان كساحة معركة، والفم كسجن.
11. بلاغة الصمت: "أختارُ الصمت // أكتفي بنظراتِ العيون" مفارقة عظيمة، حيث يتحول الصمت إلى لغة، والنظرات إلى حوار. إنها بلاغة ما لا يقال.
12. استعارة الجفاء كفضاء: "غريب هو الجفاء // يتسارعُ فيه الزمن // نحو الملل" يحول الشاعر الجفاء من حالة إلى مكان تتسارع فيه الأزمنة نحو الملل، في صورة وجودية عميقة.
13. مفارقة الخريف والشتاء: "رغم شدةِ رياح الخريف // وقدومِ الشتاء // يتساقطُ أقربُ البشر" يخلق الشاعر تقابلاً بين ثبات أوراق الأشجار وتساقط البشر، في صورة مرهفة عن زوال العلاقات الإنسانية.
14. الطيف والندم: "أشكو طيفكِ ندمًا // من قسوةِ الوجع" يختتم الشاعر بصورتين: طيف الحبيبة كشبح يطارده، والندم كشاكي يشتكي من قسوة الوجع. إنها خاتمة تضع القارئ في دائرة الألم التي بدأ منها.
ثالثاً: الخصائص الأسلوبية
1. الانزياحات الدلالية: يحقق الشاعر الانزياح بالتحولات الاستعارية التي تجعل المجردات ملموسة.
2. التكرار: تكررت أفعال المعاناة (تؤلمني، ألم، وجع) مما يعمق الإحساس بالألم.
3. المفارقات: الغريب بين أهله، الصمت الناطق، ثبات الأوراق وسقوط البشر.
4. البناء الإيقاعي: اعتمد الشاعر التفعيلة الواحدة مع تنوع في القوافي، مما يخلق إيقاعاً كئيباً متواصلاً.
5. اللغة: لغة سهلة بعيدة عن التكلف، لكنها تحمل عمقاً دلالياً كبيراً.
رابعاً: الرؤية الفلسفية تكشف القصيدة عن رؤية وجودية للموت المعنوي، حيث تتحول الحياة إلى سلسلة من الخيبات، والزمن إلى سجن للأحزان، والعلاقات الإنسانية إلى أوهام تتبدد.
ختاماً، يمكن القول إن الشاعر قد نجح في خلق نص شعري مكثف، جمع بين البلاغة التقليدية والرؤية المعاصرة، فكانت قصيدته سيمفونية للألم الإنساني في أعمق تجلياته.
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
14/10/2025


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق